من الناس من يجهل قوة وقيمة العلم. ويتصور أن التجربة العلمية الدقيقة المنضبطة هي كتجربة عطر في محل، لتعجبه فينصح بها آخرين على ضمانه الشخصي. فمثلا تجده يجرب شيئا ما، فـ”تنجح” معه التجربة الشخصية، ثم يتوجه للناس وينادي بهم: “أؤكد لكم أن تجربتي تدل على النجاح.” يعتقد أن رأيه صحيح. “أؤكد لكم، أن العطر الذي اشتممته أزال كل آلامي، جربوه، سوف ينجح معكم أيضا” لا يدري أن لو كان منهجه في التجربة سليما لكانت شركات العقار قائمة منذ أكثر من 2000 عام، حيث أن مثل آرائه التجريبية الشعورية الشخصية كانت موجودة منذ تلك الأيام، ولكنها لم تجدي نفعا.
لم تتكون هذه الشركات إلا بعد أن أتى العلم التجريبي الصحيح ليكشف عن حقيقة الآراء الشخصية التي يُعتقد بصحتها. فإن كانت الآراء صحيحة طورها بطريقة لم يكن ليحلم بها بشر من السابقين، وإن كانت خاطئة تخلص منها وانتقل للرأي الآخر ليختبره. ذلك الذي جرب العطر وشفي، لا يدري إن كان شفاؤه هو ذاتي أم من العطر، قد يكون وأن جسمه عالجه بنفسه، ولو أنه في تلك اللحظة التي شفي بها ذاتيا أثناء اشتمامه رائحة نتنة، لربما نصح من حوله باشتمامها أيضا، وسيصر على أنه شفي بسببها. ولذلك، العلم يعرف كيف يكشف هذه الملابسات البسيطة التي فاتت على ذلك العطار.
ولكن لنأخذ منحى آخر، بدلا من الخوض في موضوع التزامن للمرة المليون، لنتساءل، لماذا يصدق الناس أصحاب الآراء؟ ولماذا يتجنب الكثير من الناس العلم الصحيح الدقيق الذي أنشأ كل هذه المؤسسات الجبارة من حولنا؟ الإجابة تأتيكم من العلم، لا مفر.
السبب يعود لبخل المخ، فالمخ بخيل، وبسبب بخله في استهلاك الطاقة لتحليل المواضيع بشكل جيد، فهو يقوم باستهلاك أقل كمية من الطاقة ويبتعد عن التحليل، فيتقبل الأمور على ظاهرها بدلا من التوغل في عمقها، لفهمها ولتحليلها.
المخ يستخدم النظام الأول، بدلا من النظام الثاني، هذين النظامين ذكرهما العالم الحائز على جائزة النوبل دانيال كانامان في كتابه الشهير “التفكير بسرعة وببطء.” النظام الأول سريع، والثاني بطيء. حينما تتقبل الرأي بلا تحليل ولا تفكير، فأنت تستخدم النظام الأول، وحينما تحاول أن تفهم وتحلل فأنت تستخدم النظام الثاني. وحينما تستخدم النظام الأول لا تستهلك طاقة كبيرة، وحينما تسخدم النظام الثاني ستستهلك طاقة أكبر.
بما أن الصفة التطورية الأولية الحيوانية تحاول أن تحافظ على نفسها من الهلاك، فسيعمل النظام الأول في الغالب، ولكن حينما يُستخدم النظام الثاني، فإن في ذلك رفعة عن الصفة الحيوانية إلى تلك البشرية العقلية التي أتت لاحقا، صفة أنتجت العلم، وبالتالي كل هذه المؤسسات التي خدمت البشر في كل نواحي حياته.
“الخبر الجميل” كما جاء في مقالة مجلة ساينتيفيك أمريكان (Scientific American)، “أنه من الممكن تجاوز نزعتنا للنظام الأول، ولكي نقوم بذلك، لابد من التمرس في العلم والتفكير الإحصائي، بحيث يصبح ذلك أتوماتيكيا، وفي النهاية سيكون هو الاختيار الأول.”
إن كنت تفضل الرأي على العلم، فعلى الأقل أنت الآن تعلم أي نظام أنت تستخدم للتفكير.
المصدر: Scientific American