مقدمة
لعل من أهم وأكبر النقاشات المتداولة في العالم كله هي نقاشات تتمركز حول العدالة، وهذه النقاشات تبدأ على المستوى الفردي حيث يناقش الفرد مع نفسه كيفية التصرف في قضايا معينة بطريقة تتناسب مع العدالة أو أن تكون نقاشات بين الأفراد أو حتى على مستوى المجتمعات في الداخل لوضع حلول لمشاكل تمسهم على المستوى الاجتماعي أو كذلك على مستوى الدول وحقوقها الدولية، الثورات المختلفة التي بدأت من تونس وإلى يومنا في سوريا كلها تبنى على مبادئ يطالب بها الناس لمحاولة ضمان حقوق عادلة لهم. على أي مبادئ نحن نطالب بالعدالة؟ هل تعتمد على مبادئ أخلاقية تضمن تحسين المستوى العام للناس، أو أنها تضمن الحقوق للفرد أم أنها تعتمد على قيم وفضائل؟
في هذه الحلقة سأناقش العدالة أو “وما هو الصحيح” معتمدا على ثلاث مدارس فلسفية، الأولى هي المدرسة النفعية (Utilitarianism) والمدرسة التحررية أو الليبرتارية (libertarianism)، ومدرس الفضائل التيليولوجية، المدارس هذه قائمة على أراء عدة فلاسفة مثل جيرامي بينثام (Jeremey Bentham) وجون ستورات ميل (John Stuart Mill) في المدرسة الأولى، وكانت (Kant) وجون رولز (John Rawls) في المدرسة الثانية، وافلاطون في المدرسة الثالثة. ما لن أتعرض له في البودكاست هو المدرسة الإسلامية، وذلك لسببين، لأني لا أعرف كيف تنظر المدرسة الإسلامية للعدالة إلا على شكل حبات العقد المفتولة، فليست لدي نظرة مترابطة في الموضوع، كل ما أعرفه في المدرسة الإسلامية هو نقاط متفرقة تعلمتها خلال مرحلة حياتي بشكل غير منظم. والسبب الثاني يعود لكون وجود رواسب في عقولنا ربما تعيق سماع البودكاست بسبب انحيازاتنا لمدرسة دون أخرى. فتفاديا لتشويش الذهن قررت أن أتحدث فقط عن المدراس الفلسفية الغربية.
الحلقة هذه ستكون الأولى في السلسلة، والثانية ستكمل المشوار في الفلسفلة، والثالثة سأتكلم عن الأخلاق بشكل عام بناء العلم الحديث التجريبي، حيث أن الكثير من العلماء المتخصصين في المخ بدأوا بالبحث في مفهوم الأخلاق من خلال دراسة المخ وكيفية تفاعل الإنسان مع محيطه، هذه الدراسات تلقي الضوء على الأخلاق من الداخل بدلا من الخارج، وتحاول أن تؤسس للتفكير في الأخلاق استنادا على مبادئ تجريبية بدلا من الفلسفة التي في غالبها لا تعتمد على التجربة العلمية.
في هذه الحلقة سأعتمد بشكل كبير وأساسي على كتاب العدالة: ما هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله (Justice: What’s the Right Thing to Do) للفيلسوف السياسي مايكل سانديل (Michael Sandel)، أثار اهتمامي هذا الموضوع حينما شاهدت محاضراته الفوق رائعة على اليوتيوب، فقد كان يلقي المحاضرة بأسلوب حواري مع الطلاب، ويدعوهم للتفكير في قضايا معاصرة من خلال الأمثلة الصعبة أحيانا والأمثلة الواقعية، شوهدت هذه المحاضرات إلى يومنا هذا بتاريخ 17/3/2013 حوالي 4.3 مليون مرة، انتقلت بعدها لكتابه الذي كتبه بناء على تلك المحاضرات. أنصحك بمشاهدة المحاضرات بشدة وكذلك أنصحك بقراءة الكتاب والذي يشرح الموضوع بترابط، وقد ساهمت مساهمة بسيطة في تصحيح ترجمة المحاضرة الأولى من سلسلة محاضراته، ووُضعت هذه اللقطة على اليوتيوب.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=kBdfcR-8hEY]
الشيء الوحيد الذي ربما سيكون منتقصا لطرح مفهوم العدالة في البودكاست هو النقاش المباشر المثير الذي من الممكن يأتي بنتيجة أفضل من السرد، ولكن نصيحتي للمستمع هي أن يأخذ هذا الموضوع ويبدأ بالنقاش مع الأصدقاء، ومع النقاش ستكتشف المصاعب الذهنية التي يتعرض لها الشخص في إيجاد حل لبعض التساؤلات، خلال الحلقة سأطلب منك إيقاف البودكاست للإجابة على تساؤل، وحينما تعود سأناقش إجابتك للسؤال، ربما لن يكون هذا كالنقاش المباشر، ولكنك ستبدأ بتقييم آرائك بشك أفضل. أنا شخصيا جربت هذه النقاشات مع الأصدقاء، ووجدت أنها بالإضافة لكونها مسلية للغاية اكتشفت أنها صعبة وتدعو لتغيير اعتقاد الشخص الذي يعتقد أنه يعرف الحقيقة، واكتشفت أيضا أن العدل بشكل خاص والأخلاق بشكل عام ليسا بتلك السهولة التي نتخيلها. قد تتصور أنك بالتربية التي تربيتها سواء في المنزل أو في المدرسة أو في مجاميع الدينية أنك ستعرف الصحيح من الخطأ، ربما ستكتشف العكس، بل ربما تكتشف أن العدالة صعبة لدرجة أنك لربما ستخرج من هذا البودكاست في حيرة أكبر مما بدأت به.
معضلة القطار
تخيل أنك تقود قطارا والقطار يسير على سكة الحديد. نظرت أمامك وإذا على السكة خمسة عمال يعملون غير منتبهين للقطار المتجه إليهم، وعلمت أنه لا محالة لو أن القطار أكمل على الطريق فإنه سيصطدم بالخمسة وسيموت الجميع، وفي لحظة خاطفة رأيت على الجانب تفرع من سكة الحديد يتجه بعيدا عن الخمسة، ولكن هناك شخص يقف على السكة، ولو أنك توجه القطار لتلك السكة فسيصطدم القطار بالفرد الواحد بدلا من الخمسة، نعم… سيموت ذلك الواحد. السؤال هو: ماذا ستفعل؟ هل ستختار أن تصطدم بالواحد أم بالخمسة؟ من المهم أن تضع في اعتبارك أنه ليست هناك أي اختيارات أخرى سوى اخيتاري الوجهة، لا تفكر في أن تقارن الأشخاص وتقول مثلا أنه قد يكون الشخص الواحد هو أهم من الآخرين لأنه آينشتاين مثلا، أو أنك تقلب القطار أو ما أشبه من احتمالات غير موجودة في المعضلة، إذن لديك إختيارين أما أن تصطدم بالواحد أو بالخمسة، الآن أوقف البودكاست للحظة وفكر في الإجابة.
الكثير من الناس يجيب على هذه السؤال ربما بسرعة، ويقول: “أنني أفضل أن أصطدم بالشخص الواحد بدلا من الخمسة،” هناك من الناس من يختار أن لا يقوم بأي شيء ويدع الأمور كما هي، وأن يموت الخمسة، ولكن ربما ستكون أنت ممن يختار أن يقلل من الخسائر، ويرى أن إسعاد 5 أشخاص بدلا من 1 أكثر عدلا، من الممكن أن تفكر أنه ربما تكون لذلك الشخص الواحد عائلة واحدة، بينما خمسة أشخاص فتلك خمسة عائلات بالأزواج والأطفال، فقادك التفكير إلى اختيار العدد كقرار يعينك على القيام بما هو صحيح أو عادل.
لنطور السؤال قليلا، ولنسأل السؤال التالي: تخيل أنك على جسر وكان هناك قطارا يسير أسفل الجسر، وهو يسير على سكة حديد واحدة لا مجال لتغيير مسيرة القطار المتجه في وجهة تصادم مع خمسة أشخاص، وأنت تراقب هذا المشهد وبجانبك شخص بدين ممتلئ ثقيل الوزن، لو أنك رميت بالشخص من على الجسر وعلى سكة الحديد أمام القطار فإن القطار سيتوقف وستنقذ الخمسة، ماذا ستفعل في هذه الحالة؟ أوقف البودكاست مرة أخرى وفكر في الإجابة على السؤال وسنعود لمناقشة رأيك.
أغلب الناس هنا ستقول: “لا يمكن أن أرمي بالرجل المسكين على السكة”، قد تحس أنه من الصعب جدا الإلقاء بالشخص الواحد من على سكة الحديد أمام القطار، أليس كذلك؟ ربما البعض الذين لديهم الاستعداد لرمي البدين أمام القطار يعتقد أن فلت من هذه المعضلة، فالبعض قد يعتقد أنه لا يزال رأيه راسخا في إنقاذ خمسة بدلا من الشخص الواحد، سنعود لإجابة أغلب الناس بعد المثال التالي، وسننظر إن كان الذي سيرمي بالشخص الواحد سيبقى على نفس المبدأ أم لا بحسب في المثال التالي.
لكل من أصر على رمي البدين نتساءل السؤال التالي: لو أنك طبيب ولديك غرفتين، في واحدة منهما شخص سليم لا مرض فيه، وفي الغرفة الأخرى خمسة أشخاص، كل واحد منهم لديه مشكلة ستؤدي إلى موته، فواحد منهم مصاب بالقلب والآخر بالرئة والثالث بالكبد وهكذا، واعتبر أن كل واحدة من تلك الإصابات ستؤدي إلى الوفاة، نتساءل إذا كنت أنت الطبيب فهل لديك الاستعداد لتخدير الشخص السليم في الغرفة الأولى لأخذ أعضائه وزرعها في كل من الأشخاص المرضى؟ أعتقد أن اللعبة تغيرت الآن، ما لم تكن شخصا سيكوباث أتوقع أن لا يمكن أن تفكر في نزع الأعضاء من الشخص لتقديمها للشخص الآخر.
يا ترى لماذا تتغير آراء الناس من المثال الأول من رأي يتخذ القرار في التضحية في الواحد مقابل العدد الأكبر إلى عدم التضحية في الواحد في المثالين التاليين؟ في محاضرات سانديل وفي نقاشي مع بعض الأصدقاء يخبرونني أنهم في الحالة الأولى لم تكن لديهم اختيارات، فالقطار سيصطدم في أحد الطرفين، ولكن في المثال الثاني أنا أقدم على جريمة، فأنا اخترت أن أقتل شخصا بريئا، وربما هذا يثر فيك الإحساس بالضيق، وقد تحس أنه من الظلم أن تدفع بالشخص. ولكن لو نفكر قليلا سنجد أن الاختيار متوفر لك في كلا الحالتين، فأنت اخترت أن تغير مسار القطار ليصطدم في الواحد البريء الذي لم يكن القطار ليتجه له لولا اتخاذك لقرارك، وفي الحالة الثانية أيضا أنت اخترت دفع الشخص الواحد من على الجسر، فما الفارق بينهما؟ هل في الاصطدام في الشخص الواحد عدالة، وفي رمي الشخص الواحد ظلم؟ في الحالة الأولى ربما أنت اتخذت القرار مستندا على مبدأ أكبر سعادة لأكبر عدد من الناس وفي الثاني ربما أنت فكرت كنت تفكر في سلب حرية الشخص من اتخاذ القرار بنفسه، ولكن هذه أيضا لا تقدم حلا للمشكلة، ففي قيامك بتوجيه القطار إلى جهة الشخص لم يتخذ الواحد قرارا في أن يموت. أنت اتخذت القرار نيابة عنه.
قد تتصور أن مثل هذه المثال لا ينطبق على الحياة العملية، وأن مثل هذه المثال ليست فيه معطيات كاملة تجعلك تفكر بشكل سليم، وتأتي برأي محكم، فالمثال يحد من التفكير السليم وأنه على أرض الواقع الاحتمالات مفتوحة وربما تتخيل وجود معطيات تتيح لك الفرصة في اتخاذ قرار أكثر عدلا. لنرى إن كان هذه الكلام صحيحا.
في سنة 2005 حينما كان الجنود الأمريكان في أفغانستان أتاهم خبرا بأن هناك حوالي 150 شخصا مسلحا من الطالبان، وكان من بينهم شخصا مهما مطلوبا، فقرر الجيش أن يرسل 4 جنود لاستطلاع الوضع، فتوجه الأربعة ومعهم الضابط ماركوس لتريل (Marcus Luttrell)، وأثناء صعودهم على الجبال رآهم راعي أغنام مع ابنه الذي كان عمره 14 سنة، فقبضوا عليه ووجهوا البنادق على جسده وأمروه بالجلوس حالما يفكروا فيما يفعلوا به، فهل يتركوه يذهب وشأنه أو أنهم يقتلوه؟ فلو أنهم تركوه لسبيله فقد يبلغ عنهم وقد يقتلون، وإن قتلوه فقد يكون ذلك ظلما لشخص بسيط لا يملك السلاح، والمشكلة أنهم لم يكن لديهم رباط يوثقوا به الأفغاني إلى أن ينتهوا من مهمتهم، و إذن، لم يكن لديهم سوى اختيارين، فإما تركه أو قتله، فتحاور الأربعة، فقرر واحد منهم ألا يشارك في التصويت على مصير الراعي، أما الثلاثة الباقين فقد قرر الأول أن يتخلص من الراعي بقتله، والثاني قرر أن يدعه يذهب في سبيله، وبقي الضابط ماركوس يفكر، وبعد أن راجع في قلبه قيمه المسيحية أحسن أن تلك القيم لن تسمح له بأن يقتل الراعي الغير مسلح وبدم بارد فقرر أن يصوت في صالح ترك الراعي.
لم تمر ساعة ونصف بعد أن أٌخلى سبيل الراعي وإذا بالجنود الأربعة محاطين بأكثر من 100 أفغاني مسلح بالـ AK47 وبالآر بي جي، وبدأوا بقتال شرس أودى بحياة ثلاث جنود وبأسقاط مروحية للجيش الأمريكي وقتل 6 جنود آخرين كان على متن المروحية، ونجى الضابط ماركوس بعد أن جرح وسقط من الجبل، رجع إلى القاعدة بعد أن زحف سبعة أميال، وكتب هذه القصة لاحقا، وتذكر كم كان غبيا في قراره، وأن هذا القرار كان سببا في قتل زملائه الجنود، وندم أشد الندم على ذلك.
نتساءل لو أنك كنت في مكانه هل كنت ستتخذ نفس القرار؟ مع العلم أنك لا تعلم ما سيحدث في المستقبل، المعطيات المستقبلية ليست متوفرة لديك، كما لم تكن متوفرة لدى الضابط ماركوس، فلو علم ماركوس أن الراعي سينادي المقاتلين لما تردد في قتله كما هو واضح من ندمه على القرار، ولكنه لم يعلم مسبقا أن تركه للراعي سيأتي بنتائج وخيمة، فهل كنت ستقتل الراعي مع ابنه في سبيل نجاة الأربعة؟ أم أنك ستفكر بقيم أخلاقية تعتمد على كرامة الشخص تدعوك لعدم قتل شخص بريء؟ ألا تشبه هذه القصة معضلة القطار والبدين؟
المدرسة النفعية (Utilitarianism)
في اتخاذك القرار في أن تصطدم بالواحد بدلا من الخمسة أن تنتمي لمدرسة الفكر التي تدعو لإضفاء أكبر سعادة لأكبر عدد من الناس، ويطلق على هذه بالمدرسة النفعية، وفيها يكون الهدف هو أن يعم أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس، وفي المقابل يتم تقليل الشقاء بأقل قدر، وقد طرح هذه الفكرة في البداية الفيلسوف جرمي بينثام وطورها بعد ذلك الفيلسوف جون ستيوارت ميل، وتعتمد الفكرة على أن الأخلاق يتم تحديدها على النتائج، فيتم تحديد الصحيح من الخاطئ لا على القيم والفضائل بل على عملة المنفعة (كيفية تحديد المنفعة هو بحد ذاته في محل نقاش مختلف).
يعتمد بينثام على سيدين رئيسيين للبشر وهما الألم والمتعة، وأن كل عمل يقوم به الشخص لابد أن يأخذ بعين الاعتبار هذين الشيئين، فإذا كان العمل يقود للمتعة أو السعادة لأكبر عدد من الناس فسيكون من الصحيح القيام به، وإن كان العكس فسيكون من الخطأ القيام به، اقترح بينثام مبدأ لقياس السعادة وهو أن تقاس حدة السعادة ومدة السعادة وكذلك درجة اليقين بتلك السعادة وأمور أخرى. أما بالنسبة لجون ستوارت ميل فقد قرر أن يكون مقياس السعادة خال من الحسابات الدقيقة بل قياس السعادة يعتمد على المدى الطويل. دعنا من تفصيل الفكرة، ولكن ما هو مهم هو معرفة أن هناك ما هو أشبه بالعملة التي يمكن بها تقرير قيمة السعادة.
وهذه المبادئ تأثر بها الكثير من السياسيين لأن فكرة بينثام لم تكن فقط لأفراد الدولة بل إنها تنطبق الدولة كلها، وأن المشرع في الدولة يجب أن يعمل بهذا المبدأ، وحتى العلماء تأثروا بمبدأ بينثام، وسيكون هذا في نقاش حلقة قادمة، وخصوصا أن المبدأ النفعي يعطي العلماء إمكانية لحساب هذه السعادة، فيمكن لهم أن يحسبوها رياضيا وإنتاج أرقاما تعطي نتائج واضحة يمكن الاستفادة منها مباشرة.
تعال إلى مثال حي، حدث في سنة 1884 أن ثلاثة بحارة بريطانيين أرادوا الانطلاق في البحر على متن السفينة ميجنونت (Mignonette)، فرافقهم شاب يتيم عمره 17 سنة لم يبحر في حياته، وبالرغم من نصح أصدقائه له بعدم الخروج إلا أنه قرر أن يخرج مع البحارة ليصبح رجلا، وفي أثناء الرحلة واجه البحارة عاصفة شديدة أغرقت سفينتهم، فهربوا على متن قارب نجاة، ولم يكن لديهم سوى القليل من اللفت، فأكلوا من اللفت ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع اصطاد البحارة سلحفاة وأكلوا منها ومن اللفت المتبقي، ولمدة ثمانية أيام بعد نفاذ الطعام نهائيا لم يأكلوا شيئا.
أنهك البحارة الثلاث ومعهم الشاب من شدة الجوع والعطش، فبدأ الشاب بشرب ماء البحر بالرغم من تحذير البحارة له من خطورة ذلك، فأصبح الشاب مريضا، وفي اليوم التاسع عشر وبعد أن نخر الجوع بطونهم وأوهنهم قرر البحارة أن يتم الاقتراع لاختيار شخص يُذبح من أجل إطعام الباقين، ولكن واحد من البحارة الثلاثة تراجع عن الاقتراع. بعد ذلك اتفق اثنين من البحارة على أن يقتلوا الشاب من غير علمه، وطلبوا من البحار الثالث أدارة وجهه أثناء القتل، فرفع أحدهم سكينة، وغرسها في وريد رقبة الشاب، فتوفي الشاب، وتناول البحارة من لحمه ودمه إلى نهاية الـ 24 يوما إلى أن اكتشفتهم سفينة ألمانية وأرجعتهم إلى إنجلترا.
بعد أن علمت السلطات الإنجليزية بالواقعة قبضت على البحارة الثلاث، وأفشى واحد من البحارة بقصتهم، وحينما قدموا للمحاكمة دافعوا عن أنفسهم بالدفاع التالي: إما أن يموتوا جميعا أو أن واحدا منهم يموت وينجوا الثلاثة، وبما أن الثلاث البحارة كانوا ذوي أسر، والشاب كان يتيما ولم يكن هناك من يحزن لفقدانه وليس هناك من يرعاه فإن الشاب كان هو أفضل اختيار لإنقاذ الباقين، وخصوصا أن الشاب كان على وشك أن يموت بسبب مرضه الشديد، ولذا فقد أكلوه لإنقاذ ثلاثة بدلا من واحد.
قد تؤيد المدرسة النفعية هذا التوجه، حيث من الواضح أن قتل الفرد الواحد انعكس إيجابا على 3 أشخاص أو أكثر من أسرهم، فهل ترى أن في مثل هذه الأوضاع يسمح لأشخاص القيام بهذه العملية الحسابية النفعية لاتخاذ قرار، وهل يعتبر ذلك عادلا؟ أم أنك تعتقد أن هناك أمرا أكثر أهمية من حساب الأعداد؟ هل تعتقد أن الأرقام ليست كافية لتحديد الصح من الخطأ؟
لنتساءل السؤال التالي: لنفترض أن إرهابيا جهز قنبلة ذرية وخبأها في مكان ما في بلدك، فلو انفجرت هذه القنبلة فإن عدد هائل من الناس سيموتون من جراء انفجار القنبلة. قبض الأمن على الإرهابي قبل انفجار القنبلة ووضعوه في زنزانة، هل يحق لنا تعذيب الواحد لإنقاذ الملايين من الناس؟ هل ترى ذلك مناسبا؟ بحسب المدرسة النفعية فإن هذا العمل مستحب وخصوصا أنه يرفع الشقاء عن عدد كبير من الناس في مقابل الشخص الواحد، وربما أنت توافق وخصوصا أنك أنت وعائلتك وأصدقاؤك وعوائلهم كلهم سيموتون في هذه الانفجار، صحيح؟ المدرسة النفعية قد تقف مع التعذيب بناء على هذا المبدأ أو أنها قد ترفض التعذيب ليس من باب القيم، ولكن من باب أن التعذيب لن يأتي بنتيجة.
ولكن لنفترض الافتراض التالي، لو أن الإرهابي له بنتا صغيرة، ولو أنك عذبتها أمامه فإنه بالتأكيد سيخبرك أبوها الإرهابي بمكان القنبلة، فهل ستقبل بتعذيب البنت الصغيرة الواحدة في مقابل الكثير من الناس؟ أتوقع أن أغلب الناس سترفض هذا المبدأ، ربما حتى النفعيون سيواجهون صعوبة في تقبل مثل هذا المبدأ، لو أنك الآن رفضت تعذيب البنت فبأي سبب رفضت هذه الفكرة؟ هل تعتقد أن مبدأ النفع العام لا ينطبق في هذه الحالة؟ وإذا كان كذلك فعلام اعتمدت في رفضك لمبدأ تعذيب البنت الصغيرة؟ فبالتأكيد أن حساب النفع العام بناء على إسعاد أكبر عدد من الناس لم يكن هو العمل الصحيح.
قد لا تتفق مع التعذيب والقتل من أجل النفع العام، ولكن قد تقول أنه من الممكن أن أكون في مجتمع تكون فيه طائفة معينة هي الأغلبية فمن المنطقي أن لا يسمح للطوائف الأخرى ممارسة عبادتهم كما يريدون، فنحن الطائفة الأكبر وهي المكون الأساسي في النسيج الاجتماعي، وعليه فإن من الناحية النفعية فإن الغالبية العظمى ستكون سعيدة بذلك، فمن المعقول أن تكون البلاد التي تتكون في أغلب تركيبتها السكانية من المسلمين أن لا يُسمح للمسيحية أن تبنى لهم كنائس، لا شك أن مثل هذه الأبنية تبعث على الشقاء للغالبية العظمى من أهل البلد، وفي إزالتها سعادة لهم، إذن بحسب جرمي بينثام لابد للدولة أن تلغي دور عبادة المسيحيين. ولو أنك في بلد ذو أغلبية مسيحية إذن لابد أن تقبل أن تلك الدولة يحق لها إزالة كل دور العبادة الإسلامية بهدف إسعاد الغالبية العظمى من المسيحيين، وبما أننا نقبل إلغاء دور العبادة المسيحية بناء على المبادئ النفعية في بلادنا فإذن لابد أن نقبل بها في بلاد الغير أيضا. فهل تقبل بذلك؟
لعل أهم ما قدمته المدرسة النفعية هي مبدأ لقياس مستوى المتعة والألم، وبما أن العلم يمكنه القيام بذلك فيمكن من الناحية العلمية حساب ذلك رياضيا، لو أردنا أن نكون أكثر دقة نستطيع أن نقوم بحساب مستوى السعادة والشقاء بحسب المال المتداول، قام عالم في علم نفس الاجتماع إدوارد ثورن دايك (Edward Throdike) بإعطاء قيمة للأشياء من خلال دراسة ميدانية، فقد سأل الناس عن المبلغ الذي يعوض لهم خلع ضرس، أو المبلغ الذي يعوض لهم قطع الإصبع الأصغر في القدم، أو قيمة خنق قطة حتى الموت، أو أكل دودة طولها 6 إنشات، وكذلك قيمة العيش وحيدا في مزرعة في منطقة نائية، فكانت الإجابات كالتالي:
خلع الضرس 4500$
قطع الإصبع 57,000$
أكل الدودة 100,000$
خنق القطة 10,000$
العزلة 300,000$
وهذا يعني أن كل ما يرغب به أو يكرهه الإنسان يمكن إعاطؤه قيمة مادية (مع العلم أن الكثير من الناس رفض أن يعطي قيمة لمثل هذه الأشياء، وأيضا ليس من المعقول أن تكون قيمة الانعزال عن الناس تعادل ثلاثة أضعاف قيمة أكل الدودة) ولكن لو افترضنا أن السعادة يمكن يتقديرها بالمال بشكل دقيق جدا، فهل يعني ذلك أن هذه القيمة يمكن الاعتماد عليها في تطبيق العدالة؟
شركة فورد وفي سنة 1970 اكتشفت أن هناك خلالا في سياراتها، المشكلة كانت في أن حاوية الوقود في السيارة كانت قابلة للإنفجار إذا ما صدمت سيارة أخرى مخرة السيارة التي فيها الخلل، بسبب هذه المشكلة توفي أكثر من 500 شخص، وأصيب الكثير بجراح، رفعت قضية على شركة فورد واكتشف المحكمة أن مهندسي الشركة كانوا على علم بالخلل، ولكنها وبعد حسابات لقيمة التكلفة الإجمالية أنه لا فائدة من إضافة أجهزة تجعل السيارة أكثر أمانا. بل أن الشركة وبعد حساب عدد الحوادث التي من الممكن تتسبب بها السيارة من موت وجروح، وبحساب تعويض كل شخص بحوالي 200,000$ للميت و67,000$ للمجروح، فإن القيمة الإجمالية لن تتعدى 49.5$ مليون، ولكن لو أنها أصلحت جميع السيارات فذلك يعني أنها ستصرف مبلغا وقدره 137.5$ مليون دولار، وهذا ما يقارب الثلاث أضعاف، إذن من المنطقي بحسب المدرسة النفعية أنه من الأفضل أن لا يتم إصلاح السيارات.
بعد علم المحكمة بهذه الدراسة غضب المحلفون كثيرا، وأعطوا المتضرر 2.5 مليون دولار، وغُرمت الشركة 125$ مليون دولار. قد تقول أن مثل هذه الغرامة والزيادة نتيجة مستحقة، فكيف يمكن للشركة أن تقيم الروح البشرية بمبلغ 200,000$، ربما لم تلاحظ شيئا مهما، وهو أن المحكمة حينما غرمت الشركة مبلغا كبيرا وزادت من المبلغ المدفوع للمتضررين، هي في الواقع لم تنفي المدرسة النفعية، كل ما هنالك أنها قيمت الشخص بقيمة أكبر مما قدرته الشركة، أليس كذلك؟ فإذا كنت مطمئنا لما قامت به المحكمة فذلك يعني أنك راض عن المدرسة النفعية.
قد تتصور أن مثل إضفاء قيمة على روح الإنسان إنما هو أمر مشين، ولكن تذكر أن حتى في الدين الإسلامي توجد دية (لا أدري عن بقية الأديان)، وتأتي على عدة مستويات ابتداء من دية الضرب وانتقالا إلى انتزاع العين والسمع إلى القتل، فهل هذه كلها تنتمي للمدرسة النفعية والتي تحدد قيمة للإنسان وأعضائه؟
المدرسة الليبرتارية أو التحررية
هناك مشكلتان في طرح الفيلسوف جرامي بينثام، المشكلة الأولى هي تقدير القيمة لكرامة الإنسان ونفي حقوق الفرد الواحد، فإعطاء الأولوية لتنفيع الجماعة يسلب حق الفرد أو الأقلية، والمشكلة الأخرى هي قيام العدل على قيمتين، قيمة الألم والمتعة. الفيلسوف جون ستوارت ميل ينتمي للمدرسة النفعية، ولكنه جدد هذه المدرسة وطور فيها رأيا مخالفا لها، ومن ذلك التطوير انتقل إلى إنشاء فكرا جديدا مستقلا نوعا ما، وهذا الفكر الجديد ينتمي للمدرسة الليبرتارية (وليس الليبرالية)، وإن كان جون يعتقد أنه ينتمي للمدرسة الأولى.
ما هي مبادئ جون ستوارت ميل؟ المبادئ تقوم على أن الإنسان حر في أي تصرف يشاء أن يقوم به طالما أنه لا يضر بالآخرين. وأن الحكومة لا تتدخل في حق حرية شخص لإنقاذه من نفسه أو حتى لفرض معتقدات العامة لكيفية عيشيه. وطالما أن الشخص لا يضر بأحد فإن استقلاليته مطلقة على نفسه وعلى جسده وعلى عقله، فيكون الشخص ذو سيادة.
لم يتخلى ميل عن الفلسفة النفعية، بل يقول أن رأيه ينطلق من رحم تلك المدرسة، وأنه صحيح أصبح للفرد الواحد حق مطلق في نفسه ولا يسمح للغالبية أن تعترض على ذلك الحق حتى لو كان ذلك يسعدهم، إلا أنه يعتقد أن إعطاء الحرية للفرد إنما سيقود الناس إلى أكبر قدر من السعادة وعلى المدى الطويل.
لماذا يعتقد ميل أن إعطاء الحرية للفرد ليتحرك ضد عموم الناس هو شيء مهم وهو بالضرورة نفعي؟ بحسب كتاب Justice فإنه يجيب على هذا السؤال: “قد يتبين أن الرأي المخالف صحيح، أو صحيح جزئيا، وهذا سيكون مصحح لرأي سائد، وحتى لو لم يكن كذلك، فإن إخضاع الرأي السائد لمعارضة أفكار حيوية سيمنعها من التصلب لتصبح عقيدية ومتعصبة، وأخيرا، المجتمع الذي يفرض على أفراده احتضان أعراف وتقاليد من المرجح أن تقع في الامتثال الفاقد للمبادرة، وبذلك تسلب من نفسها الطاقة والحيوية التي تدفع للتحسين الاجتماعي” أعيد شرح هذه الفكرة فربما لم تكن واضحة، هنا جون ستوارت ميل يدفع الشخص الواحد لإبداء رأيه حتى لو كان مخالفا للآراء السائدة، سواء أكان رأيه صحيحا، صحيحا جزئيا أو حتى خاطئا، لماذا؟ لأنه سيضع الرأي السائد أمام المحك ليمنعه من التصلب، وإلا البديل لذلك أن يتماشى كل فرد مع ما هو موجود حاليا في المجتمع فلا يسمح له بإبداء رأيه، فلا يتغير المجتمع ولا يتطور.
حينما أشاهد برنامج مثل Britain Got Talent أو America Got Talent، أو حتى الكثير من الدول الأخرى أجد الكثير من المواهب الفذة، في والمقابل أجد أيضا أشخاص غير موهبين يصلون إلى حد السخافة المضحكة، قارن ذلك مع Arabs Got Talent، ستجد أن المواهب لا تصل إلى الحد التي تصل إليها المواهب الغريبة، بححكم أنني عاشرت الإمريكان 10 سنوات والبريطانيين 3 سنوات فإني أعلم تماما كيف يعيش أولئك الأشخاص، ستراهم مستقلين بأنفسهم، ولا توجد ضغوط اجتماعية كبيرة بنفس جحم الضغوط الاجتماعية التي لدينا، فتجد أن الاستقلالية لدى الفرد هناك تدعوه لاكتشاف ذاته وتطويرها، فربما يصبح الفرد مبهرا في موهبته أو فاشلا تماما، فتجد الشخص على طرفي طيف المواهب، أما ما تراه لدينا من ضغط اجتماعي الذي يجعل الجميع يمتثل لطريقة معينة للحياة تجعل المواهب في الوسط بدلا من الأطراف، وتفقد الشخص قدرته على المبادرة، فتسلب منه الطاقة والحيوية لتحسين وتقديم المجتمع.
في الحلقة القادمة سنكمل مشاور الفلسفة في المدارس الأخرى، ثم ننتقل للعلم وقدرته على فهم الأخلاق بطريقة تجريبية.
احاول ايجاد الروابط الخاصة باليوتيوب بخصوص محاضرة العدالة
وضعت الحلقة الأولى، ليست مترجمة، سأبحث عن المترجمة وأضعها في المستقبل.
ارى انه يجب ان لا نطلق على المدرسة النفعيه بمدرسة اخلاقية بل يجب ان نقول المدرسة اللا اخلاقية “المنزوعة الاخلاق” ، هذا حسب فهمي للامثله المطروحة هنا باستثناء تعذيب الارهابي ، لا اجد ان تعذيب الارهابي يتناسق مع باقي الامثله اصلا حيث ان الارهابي هو مصدر الخطر ذاته وبكامل ارادته فهنا يجب عمل كل شي ممكن لايقاف هذا الخطر ، لو اردت “في نظري” ان اعيد صياغة المثال الاول “القطار” على نفس نسق مثال الارهابي فان المثال اتوقع سيكون هكذا : لو أن هناك قائد قطار يستطيع ايقاف القطار ولكنه تعمد ان يصطدم بشخص او عدة اشخاص وانت تسطيع حرف القطار عن مساره للسكة الثانيه التي تنتهي بحفره ، فهل ستتركه يصطدم بالشخص ام ستحوله الى السكه الثانية.
اعتقد هنا الجواب واضح سارمي القطار وسائقه الى حفرة
واخيرا الف شكرا على كل ما تقدمه من طرح مفيد
في مثال الجيش الأميركي لا أدري من الغبي بصراحه الذي وضعه ببساطه يستطيعون ان يأخذوا الراعي وولده معهم فالغنم معروفه بوقارها فلن تهرب :-) وبذلك ضربوا عصفوريين بحجر واحد. الأمر الأخر في موضوع الأخلاق لا أحد يستطيع بناء فكر منطقي مستستاغ للأخلاق دون دين رغم ان الدين يخالف ذلك مفارقة عجيبه أليس كذلك. أشكرك استاذنا الجميل ع جهدك