يخلط عامة الناس بين “الاخلاقي” و ” المألوف”، إذ يعتبرون أن مجرد كون الشيء مألوفا فهو إذن يدل على أنه أخلاقي في ذات الوقت. وبناء عليه، فكل ما هو نموذجي – بحسب رأيهم – هو جيد، والعكس بالعكس.
قام عالما النفس Andrei Cimpian وChristina Tworek بسلسلة من الدراسات للتحري عن السبب الذي قد يدفع الناس إلى اعتبار حالة “الوضع الراهن” بمثابة دليل أخلاقي للتمييز بين ما هو صائب أو خاطئ، اعتمدا في دراساتهما على نظرية ديفيد هيوم – التي تشير إلى ميل الناس إلى السماح لـ “الوضع الراهن” (ما هو موجود) بتوجيه احكامهم الاخلاقية (ما يجب أن يكون).
كون السلوك أو الممارسة مطبقان بالفعل على أرض الواقع لا يعني بالضرورة أن العمل بهما هو أمر صائب، إلا أن ذلك ما يميل الناس إلى الايمان به فعلا. فعلى سبيل المثال، كانت العبودية وإعمال الأطفال – ولا تزال في الكثير من دول العالم – ممارسة مقبولة، لكن تطبيقها ليس دليلا على صحتها وأخلاقيتها إطلاقا. لقد أراد العالمان تفسير السيكولوجيا التي تدعم مثل تلك القناعات. فقاما بدراسة الكيفية التي يفسر بها البشر ما يلاحظونه في البيئة المحيطة بهم في محاولة لاستقصاء جذور هذه الاستدلالات.
إننا – ومنذ نعومة أظافرنا – نسعى جاهدين لمحاولة فهم ما يحدث من حولنا عن طريق تفسيره. حيث يعد التفسير أحد أسباب المعتقدات الراسخة في أذهان البشر، ولكن هل يمكن أن يؤثر التفسير فعلا على تمييزنا بين الصواب والخطأ؟
اختصارات لفهم البيئة من حولنا
عندما نحاول فهم العالم من حولنا، فإننا نختار الكفاءة على حساب الدقة. نحن لا نملك الوقت الكافي والمصادر المعرفية اللازمة لتوخي الدقة والمثالية عندما نفسر ما يدور حولنا باستمرار، ثم اتخاذ قرار بشأنه. فنحن – على الصعيد المعرفي – نسعى غالبا وراء إنجاز العمل بسرعة، وإذا ما واجهنا موقفا جديدا، فإننا نميل إلى اتخاذ حلولا مختصرة، وذلك بناء على المعلومات البسيطة التي ترد إلى أذهاننا مباشرة. وفي الغالب، فإن أول ما يتبادر إلى اذهاننا هو تضمين الخصائص الكامنة والجوهرية للموقف الذي نتعرض له في تفسير الموقف.
على سبيل المثال، يظن الناس أن وجود دورات مياه منفصلة لكل من الرجال والنساء يعود إلى الفروقات التشريحية بينهما. مثل هذا الميل إلى الاستنتاج المبني على السمات المتأصلة بين الجنسين يجعل الناس يتجاهلون أي أسباب أو معلومات أخرى مرتبطة بهذا الموقف في العادة. في الحقيقة، فإن دورات المياه المنفصلة لم تدخل في الحياة العامة إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر في أمريكا بداية، وكان ذلك بسبب عدة تطورات فرضتها التغيرات السياسية، والتي عززت من الفكرة القائلة بأن مكان النساء الاجتماعي يجب أن يكون مختلفا عن مكان الرجال.
فحص الارتباط
لاختبار ما إذا كانت هنالك علاقة بين تفضيل البشر للتفسير بناء على الصفات المتأصلة والاستدلال بالوضع الراهن على “ما يجب أن يكون”، طلب الباحثون من المشاركين تقييم مستوى تأييدهم لعدة تفسيرات متأصلة مثل: لبس الفتيات الثياب الوردية لأنها جميلة وتشبه الزهور. حيث يقيس مثل هذه الاختبار مدى تفضيل المشاركين للتفسيرات المتأصلة.
وفي جزء آخر من الدراسة، وُجه المشاركين لقراءة صحف زائفة تحوي إحصائيات عن عدة سلوكيات معروفة. فمثلا، “أفادت احدى الاحصائيات بأن نسبة 90% من الأمريكيين يشربون القهوة.” بعد ذلك سئل المشاركين عما إذا كانت هذه السلوكيات جيدة ومثالية، هذا أعطى الباحثين فكرة عن مدى شيوع الاستدلال بالوضع الراهن على ما “يجب أن يكون” لدى المشاركين.
لقد كانت نتائج هذين الاختبارين متقاربة، فقد اتضح أن الاشخاص الذين يفضلون التفسيرات المتأصلة، يميلون أيضا إلى الاعتقاد بأن السلوكيات النمطية الشائعة هي الواجبة على الناس.
إننا نميل إلى الاعتقاد بأن الاشياء المألوفة والنمطية هي الصحيحة. فعلى سبيل المثال، لو كنت اعتقد أن الفصل في دورات المياه هو بسبب الفروق المتأصلة بين الرجال والنساء، فإني ربما سأميل ايضا إلى الاعتقاد بمثالية هذه السلوك وأنه سلوك جيد.
الانحياز الذاتي المؤثر على أحكامنا الأخلاقية
بالإضافة لما سبق، فقد أراد الباحثان معرفة العمر الذي تتطور عنده العلاقة بين التفسير وإطلاق الأحكام الأخلاقية. حيث يبدو أن هذه العلاقة تظهر في سنوات العمر المبكرة، وكلما تطورت أفكار الاطفال حيال الصواب والخطأ، ازدادت هذه العلاقة قوة.
وفقا لدراسات سابقة، فإن من المعروف أن الانحياز للتفسير بواسطة المعلومات المتأصلة يظهر لدى الاطفال منذ سن الرابعة. فعلى سبيل المثال، عند تفسيرهم للسبب الذي لأجله تلبس العرائس الفساتين البيضاء، فهم يميلون إلى الاعتقاد أن ذلك يرجع إلى سبب متأصل ومتعلق باللون الابيض نفسه، وليس بسبب الموضة التي اعتاد الناس اتباعها في مثل تلك المناسبات.
هل الانحياز يؤثر على أحكام الأطفال الأخلاقية أيضا؟
وجد الباحثون أن الأطفال من 4-7 سنوات، والذين يفضلون التفسيرات المتأصلة، يميلون أيضا إلى الاعتقاد بأن السلوكيات النمطية صائبة وصحيحة.
وعلى افتراض صحة اعتقاد الباحثين، فإن تغيير الطريقة التي يفسر بها الناس السلوكيات النمطية يجب أن تؤثر أيضا على الطريقة التي ينظرون بها إلى الصواب والخطأ. فإذا ما أعطي الناس تفسيرات قد لا تخطر على بالهم في البداية، فإن ذلك قد يقلل من ميلهم إلى افتراض أن ” الوضع الراهن” يساوي ” المثالي”. وتبعا لهذه الاحتمالية، فإن التلاعب بمهارة التفسير لدى الناس، يمكن أن يغير من ميلهم إلى افتراض أن الوضع الراهن هو ما يفترض أن يكون عليه الوضع دائما.
عندما يتم تغيير العقلية التي يفكر بها الناس بحيث تكون أقل تأثرا بالموروث والمتأصل، فستقل إحتمالية إيمانهم بضرورة صحة السلوكيات الشائعة.
النتائج في التغيير الاجتماعي
اظهرت دراسات الباحثين السيكولوجية بعض الأسباب وراء الميل البشري إلى الاستنتاج والقفز من “الوضع الراهن” وتعميمه ليكون “الوضع المثالي”. وعلى الرغم من وجود العديد من العوامل المؤثرة التي تدفع بهذا الاتجاه، إلا أن أحد هذه العوامل هو الشذوذ في الأنظمة المعرفية للبشر، حيث الانحياز – منذ سن مبكرة – نحو المتأصل والموروث الذي يظهر في تفسيراتهم لأحداث الحياة اليومية. يبدو أن هذا الشذوذ هو أحد الأسباب التي تفسر ردة فعل الناس العنيفة تجاه أي سلوك يخالف المألوف.
قد يكون من المفيد النظر إلى الطريقة التي تدفع بها هذه العوامل المعرفية إلى مقاومة التغيير الاجتماعي، لاسيما في المسائل المتعلقة بالصلاح الاجتماعي والسياسي.
المصدر: Live Science