مقدمة
أنت تقرأ على الإنترنت الكثير من المقالات، وتستمع للكثير من المحاضرات، وتشاهد لقطات يوتيوب وتتناقش مع الأصدقاء في الكثير من المواضيع، وتتأثر بما تتعلم من كل هذه الوسائط، هذا الخليط من المعلومات فيه الغث والسمين، فكيف يمكنك التمييز بينها لمعرفة أخطاء تلك الحجج؟ أنت أيضا تستمع للسياسي ولرجل الدين ولرجل العلم، فيبدو أن كل ما يقولونه صحيح، ولكن هل هو صحيح فعلا؟ ما الذي يجعل حجة تتغلب على أخرى وما الذي يجعل الحجة قوية والأخرى هزيلة، هل هو المنطق السليم أم المنطق السقيم؟ وهل توجد مغالطات أوخلط في المعلومات لتقوية حجته؟ كيف يمكنك أن تكشف المغالطات؟ وما هي بعض القواعد التي تكشف لك أسرار بعض هذه الحجج؟
الشخصيتان اللتان سأستخدمهما في هذا البودكاست لطرح بعض الأمثلة على المغالطات هما شن وطبقة، القصة ربما تكون معروفة لديك، ولكن باختصان أن ر جلا من دهاة العرب يدعى بـ “شن” كان يريد الزواج من إمراة مثله، فقابل رجلا في الطريق، وانطلق معه، وتحدث الرجلان، وكان كلما يسأل شن الرجل سؤلا يحس الرجل الذي يصاحبه أن سؤاله تافها، فمثلا أثناء مرورهما بجنازة قال شن للرجل: “أترى صاحب هذا النعش حيا أو ميتا؟” فيرد عليه الرجل: “ما رأيت أجهل منك، ترى جنازة تسأل عنها أميت صاحبها أم حي.” وهكذا يسأل شن أسئلة وكأنها غبية، وحينما يصل الرجل إلى بيته، ويخبر ابنته عن شن الغبي تفسر له ابنته ما قصد شن من وراء أسئلته، وأن تلك الأسئلة لها عمق أكبر، وفسرت له مثلا قضية سؤال الجنازة أنه أراد أن يعرف إذا ما ترك الميت عقبا يحيا بهم ذكره أم لا، وهكذا، فاتضح أن شن ذكي وليس بجاهل، وحينما علم شن أن بنت الرجل، والتي اسمها “طبقة” أنها تتوافق معه بمستوى الفهم تزوجها، وهنا قيل “وافق شن طبقة”. سأقول أن بعد زواجهما كانا يتناقشان في أمور كثيرة، وبما أن كلاهما ذكي فقد كانا يستخدمان أساليب المغالطات لتفنيد حجج بعضهما البعض، فصحيح أن شن وافق طبقه، ولكنهما لم يتفقا بعد زوجهما أبدا.
بالتعاون مع شبكة أبو نواف أقدم لكم هذه الحلقة من السايوير بودكاست شبكة أبو نواف تقدم مواد ترفيهية وأخرى هادفة، ولاهتمامهم بتقديم مواد مفيدة وبناءة ترسل لكم السايوير بودكاست من ضمن باقتها المنوعة، ليصل البودكاست لمسامع أكبر عدد من أفراد العالم العربي.
ما هو الجدل
قبل أن أبدأ بشرح المغالطات لابد أن أقدم فكرة الجدل، كلمة الجدل تستخدم كثيرا في نقاش حاد، وهذا النقاش الحاد قد تصل فيه الأمور إلى النزاع والخصام، ولكني هنا أتكلم عن الجدل المنطقي الذي يأتي من قواعد منطقية حيث يبدأ الشخص فيه بإفتراض أساسي وبناء على ذلك الافتراض الأساسي – والذي يعتبره المجادل صحيحا – يصل إلى نتيجة، والهدف من هذا الجدال هو محاولة لإقناع الطرف الآخر بفكرة معينة، طبعا البعض يسمي الجدل المنطقي (logical argument) بإسم الحِجاج أو المنطق، ولكني سأستخدم كلمة “الجدل المنطقي” تماشيا مع العصر الحديث، وخصوصا أن الجدل المنطقي اليوم يعتمد على قواعد رياضية منطقية متطورة عن السابق، لن أخوض في الجدل المنطقي من الناحية المنطقية البحتة، لأنني إن قمت بذلك سيمل المستمع من الموضوع، وسيصبح الموضوع صعب الفهم علي وعليه، ولذلك سأتكلم عن المغالطات بأسلوب مبسط، سأطرح أمثلة عليها.
وهناك أيضا نقطة أخرى، ما يهمني في هذه الموضوع ليس إثبات أو نفي وجهة نظر أو جدل معين، بل تركيزي سيكون على المغالطات المستخدمة لإثبات أو دحض جدل بغض النظر عن صحته أو خطئه، حتى يمكن تمييز بعض هذه المغالطات أثناء نقاشك مع الأصدقاء، أو أثناء سماعك لمحاضرة يحاول فيها المحاضر إقناعك بفكرة معينة، أو من متابعتك لسجالات في الأندية السياسية وهكذا.
حينما تتناقش مع صديق، وتقدم له حجة قوية، تكون هذه الحجة بدرجة من القوة لدرجة أن الطرف الآخر لا يعرف كيف يرد عليك، سلاح قوي يستخدمه البعض لتحييد حجتك: وهو أن يطرح حجتك بطريقة أخرى مغالطة بحيث توهم الآخرين أن حجتك الأصلية ضعيفة، فيمكنه الرد على الحجة المغالطة الضعيفة بكل سهولة، بذلك بدلا من أن يتغلب على حجتك القوية فهو تغلب على حجة ضعيفة ليبدو للناس أنه تغلب على حجتك، وأكثر أسلوب يستخدم لتحويل حجة قوية إلى حجة يمكن التغلب عليها هو من خلال المبالغة فيها بحيث لا يمكنك الدفاع عنها.
شن: لابد أن نصرف على العلم حتى يمكن علاج مشاكل كثيرة.
طبقة: العالم المتقدم صرف المليارات على المليارات من المال، وأهملوا الفقراء في بلدانهم، فكان بإمكان مثل هذه الدول أن توفر المال لتغطية مجاعات العالم التي راح ضحيتها الملايين من الناس.
في هذا المثال طبقة حولت الأنظار من التفكير في قضية صرف المال على العلم إلى وضع الفقراء البائس، وهولت صرف المبالغ، وبالغت في سوء التوزيع، وربطت بين صرف المال في العلم مع عدم صرف المال على الفقراء، مع أن الحجة الأولى لم تقترح بأي شكل عدم صرف المال على الفقراء، إنما كانت تدعم موقفا محددا وهو الصرف على العلم كواحدة من الجهات التي من الممكن صرف المبالغ عليها.
لا يبدو واضحا من أين أتتك كلمة رجل القش تاريخيا، ولكن الفكرة من وراء رجل القش هي أنه في مبارزة يستبدل المبارز الخصم القوي برجل قش، فيضرب رجل القش ليوقعه أرضا، فيوهم الناس أنه تغلب على المبارز القوي وإن لم يممسه بسوء، إذن، البعض يستخدم هذه الطريقة في تبديل الحجة ببديل آخر يمكن ضربه بكل سهولة، وفي نقاش شن مع طبقة، فعلت ذلك طبقة، لأنها أنها تعلم أن الناس تتعاطف مع الفقراء، وأنها تتفاعل مع الصرف على الفقراء، فبدلا من تركيز النقاش على صرف المال على العلم (لأنها تعرف أن النقاش في هذا الموضوع خاسر، تضع رجل القش، وهو صرف المال على الفقراء كبديل للجدل الحقيقي).
هناك أيضا مغالطة قريبة من هذه وهي مغالطة المُنْحَدَر الزَّلِق، وهو أن تهول الجدال وتتدرج في طرح النتائج السلبية التي تترتب عليها، ثم تصل إلى نتيجة أن الفكرة المطروحة خاطئة.
طبقة: شن، ألا تعتقد أن من حق المرأة أن تصارع الثيران؟
شن: بالطبع لا، إذا ما بدأت المرأة بمصارعة الثيران ربما تتعلق قرون الثور بملابس المصارعة، وإذا ما انشقت هذه الملابس بدت العورة، وإذا ما بدت العورة سينتشر الفساد في الجمهور ومن الجمهور إلى المجتمع ليتحول المجتمع متحلل أخلاقيا، وبعدها تنهار أخلاق الأمة كلها.
وهذه النقطة أرى الكثير من الناس تستخدمها في السياسة والدين، ربما تجدها أيضا مجودة في العلم حينما تنشر الخبر الصحافة، فالعلم يحدد النتيجة في إطار ضيق، ولكن الصحافة تضخم الخبر ليصل تأثيره على كل مجالات الحياة، وخصوصا في بعض العلوم الإنسانية.
للتغلب على مثل هذه المغالطة، عليك بإعادة تصحيح الطرح بحيث لا يلتبس على المستمع الفكرة التي كنت تحاجج فيها.
مغالطة “ضد الرجل” (Ad Hominem)
طبقة: “لا يمكن للسلام أن يفرض بالقوة، بل يمكن تحقيقه فقط بالتفاهم.” كلمة جميلة أليس كذلك يا شن؟
شن: هل تعرفين من قائل هذه الكلمة؟ إنه يهودي، وأنت تعرفين اليهود.
طبقة: ولكن بالغض النظر عن القائل، ما رأيك بالمقولة؟
شن: وهل تريديني أن أصدق اليهود الذين يقتلون الأطفال الرضع في الأراضي المحتلة، ويأخذون حقوق الناس بالسلاح؟
مغالطة ضد الرجل (Ad Hominem) مستخدمة بشكل مروع في عالمنا العربي الإسلامي، والفكرة تعتمد على ضرب الفكرة المطروحة بضرب صاحب الفكرة، إما من خلال شخصية الشخص أو من خلال معتقدات الشخص، في المثال السابق طبقة تطرح حكمة، وهذه الحكمة جميلة، وتدعو الناس لمحاولة التفاهم بدلا من فرض السلام بالقوة، فيقوم شن بتفنيد الكلمة بطريقة غير مباشرة، فبدلا من أن يناقش مضمون ومحتوى الكلمة، يقوم ضرب صاحب الكلمة، ويحاول أن يكره طبقة بالكلمة من خلال كره الشخص.
هذه الكلمة فعلا هي كلمة أتت من شخص يهودي، وقد يتبادر لذهنك حال اليهود الإسرائليين واحتلالهم لفلسطين، وأخذ حقوق الناس بالقوة، فبذلك ترى وكأن هذه المقولة خداع ووهم لأن القائل يهودي، ولكن ماذا لو قلت لك أن اليهودي الذي قال هذه المقولة هو آينشتين؟ فهل ستغير نظرتك إلى المقولة الآن؟ ولو قلت لك أن آينشتين عرضت عليه رئاسة إسرائيل ورفض، هل ستبدأ بقبول النظر في الكلمة على أنها قد تكون حكيمة؟
بغض النظر عن آينشتين، وبغض النظر عن موقفه، إقحام كلمة يهودي في المناقشة كانت للتمويه، ونقلت المناقشة من الفكرة إلى الشخص، وهذا ما نقوم به نحن بشكل متكرر في حياتنا الشخصية، فإذا ما كنا نستمع لفكرة نحول النقاش من الفكرة إلى طائفية أو قبلية أو ما أشبه، “هل تعلم أن حسين شيعي؟ كيف يمكنك الاستماع لمثل هذا الشخص”، “انتبه، قائل هذه العبارة سلفي يريد أن؟”، “لماذا تستمع لفهد البدوي فكرة التصالح تأتي من منظور قبلي؟”، “أنور لبرالي، بالتأكيد سيؤيد فكرة الاختلاط”
هناك حالة واحدة يمكن استخدام ضرب الشخص لدحض الفكرة، إذا كانت الفكرة متعلقة تماما بتخصص الشخص، وأحيانا تستخدم هذه في المحاكم، فمثلا يأتي متخصص ليشهد في أن آثار الإطارات على الأرض هي آثار إطارات سيارة الفيراري، فإذن لابد أن الفراري هي السبب في الحادث، فيقوم المحامي بتفنيد رأي المتخصص بعد أن يبين أنه متخصص في مكائن السيارات وليس في الإطارات، فلا يمكن الاعتماد على شهادته. ودحض الفكرة بدحض مؤهلات الشخص هو مجال ضيق جدا للاستخدام ودقيق.
مغالطة “الارتباط لا يعني التسبيب” Correlation Does not mean causation
مغالطة “الارتباط لا يعني التسبيب” وبالاتينية (Cum hoc, ergo propter hoc)، وهي المغالطة التي تحدث بشكل متكرر، وهي نوع من المغالطات التي يحاول العلماء أن يزيلوها من أي تجربة يقيمونها، وهي أن نستخدم الملاحظة لربط حوادث مراتبط أو متسلسلة مع بعضها ثم نقول أن واحدة تسبب الأخرى، فمثلا لدينا هنا في الكويت كلمة دارجة، كلمة لا أحبها نهائيا، وهي كلمة “مصاب بالبرد” أحيانا يصاب بعض الناس بالرشح أو بالكحة أو بآلام بالمعدة أو بآلام بالظهر أو بآلام بالرجل فإذا لم يعرف السبب يقول أنه مصاب ببرد، وهذه من أكثر التشخيصات “الطبية” إزعاجا بالنسبة لي.
تخيل اننا انتقلنا من فصل الخريف إلى فصل الشتاء، فتلاحظ أنا انتقلنا من جو دافئ إلى جو بارد، فتصاب عندها بالزكام، وتجلس في البيت لعدة أيام مداويا مرضك، وبعد عدة سنوات من الملاحظة يتبين لك أنه كلما انتقلت الأجواء من الدافئ في فصل الخريف إلى البارد في فصل الشتاء أصيب الكثير من الناس بالزكام، فتربط ما بين الانتقال من الدافئ أو الحار مع البارد، وتعتقد أن سبب مرضك ومرض الكثير من الناس هو هذا الانتقال، فتقول أن سبب المرض هو الإصابة بالبرد، وبناءا عليه تجد الكثير من الناس حينما يأخذ دوشا دافئا يقوم بتغطية جسده تماما حتى إذا ما انتقل من الدوش الدافئ إلى الغرفة المكيفة الباردة لا يصاب “بالبرد” (ولكن بالمقابل لو أنه في فصل الصيف تراه يهرب من الحر إلى مكيف السيارة بلا أي تردد، عندها لا يصاب بالبرد!!).
السؤال هو، هل من الصحيح أن سبب الزكام هو البرد؟ هل تزامن العلاقة ما بين الدفئ والبرد هي علاقة سببية أم أنه علاقة ارتباطية تزامنية؟ حتى نتحقق من هذه الموضوع لابد من دراسته علميا، فقد يكون أن أثناء انتقال الأجواء من الدفئ إلى البرد بين فصلي الخريف والشتاء تنتقل الفيروسات أو البكتيريا بين الناس بكفاءة أكثر، وقد يعني ذلك أن ليس كل انتقال من دفئ إلى برد سببا في انتشار الميكروبات، وخصوصا أن الانتقال مخصص لفترة الانتقال بين الخريف والشتاء، وبذلك قد لا نحتاج أن نتغطى بكل ما أوتينا من ملابس حينما نخرج من الحمام، ثم أن فهمنا للسبب الحقيقي يمكننا من صناعة أدوية مقاومة للمرض بالشكل الصحيح، وإلا كيف يمكن مقاومة البرد؟ وهل في حياتك ذهبت إلى الصيدلية واشتريت دواءا يقضي على الرشح و الكحة أو آلام المعدة أو آلام الظهر أو آلام الرجل بضربة واحدة ومكتوب على جدار علبته دواء للبرد؟
شن: الرجال أذكى من النساء.
طبقة: كيف؟
شن: ألا ترين أن أغلب العلماء الحاصلين على جوائز النوبل هم من الرجال؟
هنا يحاول شن أن يجعل السبب في حصول الكثير من الرجال على جوائز النوبل هو الذكاء، فبيّن أن سبب الحصول عدد من الرجال أكبر على جوائز النوبل هو ذكاؤهم الغالب على ذكاء النساء، ولكن هل هذه علاقة سببية أم أنها هناك أسباب أخرى تسببت في أن يحصل عدد أكبر من الرجال على جوائز النوبل؟ ربما الأمر يحتاج لأن نعرف ما إذا كانت الضغوطات الاجتماعية هي السبب في أن المرأة تركز على الأسرة، وربما أن الضغوطات الاجتماعية جعلت من المرأة تهمل نفسها في سبيل أن يوفق زوجها، أو ربما بسبب إعطاء فرصة أكبر للرجل في التعلم للعديد من السنوات في الماضي كان هو السبب، وربما يكون الرجل أكثر مخاطرة، هناك عدة أسباب لابد من دراستها قبل الوصول إلى النتيجة أن “أن ذكاء الرجل الذي هو أكثر من المرأة هو السبب في حصول عدد أكبر من الرجال على جوائز النوبل”، فلابد أن لا نخلط الأمور ونجعل الارتباط والتزامن سببي.
وهناك أيضا ما ذكره ابن خلدون في مقدمته في فوائد الغبار، حيث يقول: “ذكر أن الأرض بعد تقلب الفصول من فصل إلى فصل.. أي من الشتاء إلى الصيف.. تبدأ بلفظ أمراض وحشرات لو تركت لأهلكت العالم فيرسل الله الغبار.. فتقوم هذه الأتربة والغبار بقتلها..وتتراوح حجم حبة الرمل بحسب الحشرة فبعضها صغير يدخل عيونها وبعضها يدخل أنوفها وبعضها في جوفها وبعضها في أذانها وتميتها.” يبدو أن ابن خلدون لاحظ أن حينما ننتقل من فصل الشتاء إلى الصيف الكثير من الحشرات تموت، ولاحظ أيضا أن في هذه الفترة الانتقالية يثور الغبار، فربط تزامن موت الحشرات مع تطاير الغبار في الأجواء، والأسوء من ذلك الكيفية التي علل فيها موت هذه الحشرات، حيث يدخل الغبار من الأنف والعين والأذن. هذا النوع من الربط هو ربط خاطئ ويحتاج لتجارب علمية دقيقة للكشف عن صحة هذا الزعم، لقد لاحظت أن هذه الكلمة لابن خلدون منتشرة على الإنترنت والكثير يعتقد أنها صحيحة بلا أدنى دليل على صحته.
مثال آخر قد تستغرب منه، لنفترض أن هناك علاقة تبين أن نسبة الغرق ترتفع حينما ترتفع نسبة تناول الأيس كريم، والعكس بالعكس، حينما يقل مستوى تناول الآيس كريم تقل حوادث الغرق، ولو اعتمدت على طريقة الملاحظة والاستنتاج لإبن خلدون لقلت أن زيادة الغرق سببها زيادة تناول الآيس كريم، كما تدل الأرقام، إذن، إذا ذهبت إلى البحر المرة القادمة، حاول أن تتفادى تناول الآيس كريم لدي تتفادى الغرق، وهذا بالطبع شيء غير منطقي أليس كذلك؟ بالطبع، فلماذا لا نعتقد أن ارتفاع عدد الحوادث هو بسبب ارتفاع عدد الناس الذين يتوجهون للسباحة في فصل الصيف، وبما أن فصل الصيف يباع فيه الأيس كريم، فإن استهلاك الأيس كريم يصبح أكبر؟
لذلك فالعلماء حينما يقيمون التجارب فهم يحاولون التحقق بين هذه العلاقات بشكل قاطع، بحيث إذا عرف السبب يمكن الاستفادة من العلاقة بالشكل الصحيح، ومن خلال معرفة العلاقة بالشكل الصحيح يمكننا وضع حلول حقيقة للأسباب، فمثلا لو أن الغبار هو السبب في قتل الحشرات، لرأيت قناني من المبيدات الحشرية المصنوعة من الغبار، فلا داعي لأن نرش مواد كيميائية سامة في الأجواء ثم نستنشقها، والغبار أسهل في التنظيف لاحقا، جرة واحدة من المكنسة الكهربائية وانتهى الموضوع، إذن التجربة العلمية التي تؤكد حقيقة الإدعاء أو الفرضية لا تتوقف عند حد الإثبات إنما تنتقل إلى منتجات تعتمد على الاستنتاج.
لماذا يا ترى ننخدع ونحول الارتباط إلى السببية؟ لأننا – حسب كتاب “الغوريلا الخفية: وطرق أخرى تخدعنا حدسنا يخدعنا” (The invisible Gorilla: And Other Ways our Intuition Deceives Us) – أن الإنسان يرى الأنماط في العشوائية حينما يعتقد أنه يفهم السبب في تكونها، أعيد هذه الجملة لأهميتها، حينما نرى العشوائية نحن نبحث عن الأنماط، وسنرى هذه الأنماط حينما نعتقد أننا نعرف السبب لتكوّن هذه الأنماط، والأهم من ذلك أننا سنرى الأنماط التي تدعم الأسباب التي نؤمن فيها، أكرر هذه الجملة أيضا لأهميتها، لو أنك كان لديك اعتقاد مسبق في سبب معين لأمور تحدث في الطبيعة، لرأيت أنماطا معينة تتماشى مع هذه الأسباب، راجع الحلقة التي تحدثت فيها على الأنماط (لماذا نرى الأنماط؟) لتستمع لهذا الموضوع بتفصيل، إذن، وكما هو مشهور في العلم: “الارتباط لا يعني التسبيب” (Correlation does not imply causation).
مغالطة “ليس اسكتلنديا حقيقيا” (No True Scotsman)
شن: ليس اسكتلنديا حقيقا من يشرب الشاي.
طبقة: ولكن ماكدانيال اسكتلاندي ويشرب الشاي.
شن: ماكدانيال ليس اسكتلنديا *حقيقا*.
طبقة: ماذا عن الأسكتلندي فليتشر، هو من عشاق الشاي.
شن: من الواضح أنه ليس أسكتلنديا *حقيقيا*.
هذا أيضا من المغالطات المستخدمة عندنا بشكل مكثف، في محاولة لإبعاد أي شخص سيء العادات عن الإسلام نجد أننا نخرج الشخص من الإسلام الحقيقي، فإذا رأينا عيبا معينا في شخص ما، ترانا بسرعة نقول أنه ليس بمسلما حقيقيا، وبالتالي لا نجد من نستطيع أن نطلق عليه المسلم الحقيقي (أو السني الحقيقي أو الشيعي الحقيقي أو السلفي الحقيقي أو الكويتي الحقيقي أو التونسي الحقيقي) في العصر الحالي مهما فعلنا، وهذه الطريقة تعتمد على إعادة تفسير الأدلة بحيث لا يمكن دحض فكرة الآخر، فأي مثال مقابل يبين أن هناك اسكتلنديين مخالفين للقاعدة سيكون الاعتراض أن هذا الشخص هو اسكتلندي غير “حقيقي”، ولذلك لا يمكن دحض هذه الفكرة أبدا.
هناك حالات يمكن فيها استخدام هذا النوع من الجدل، وذلك حينما يكون التعريف واضحا، فمثلا إذا قلنا: “كل النباتيين لا يأكلون اللحوم”، حينها إذا كان أحمد يأكل الدجاج، فأحمد بالتأكيد ليس نباتي، لأن التعريف واضح وصريح في تحديد أن النباتي لا يأكل اللحوم، ومن اللحوم الدجاج، مثلا، أما في الأمثلة السابقة، لم يكن التعريف واضحا، وبالإمكان التلاعب كيفا يشاء المجادل.
هناك أيضا فلسفة مهمة في هذا الجانب وهي الفلسفة التي أسس لها كارل بوبر عن محاولته لتعريف العلم التجريبي، وتمييزه عن باقي العلوم والفلسفة، وهي عملية التكذيب (falsification) ، وهي قاعدة مهمة جدا في فهم العلم، ولابد أن أتحدث عنها في المسقتبل لقوة المنطق فيها. وهي ستوضح أشياء مهمة لفهم كيف يعمل العلم.
أتمنى الآن حينما تستمع لشخص سواء أكان رجلا سياسيا أو دينيا أو اقصتاديا أو علميا أو صديقا حميما أن تناقش ذهنيا بعض النقاط التي يطرحا الشخص لترى مدى استخدامه لهذه المغالطات، سترى أنها مستخدمة بشكل شائع جدا، وأن الكثير يعتمد عليها لدحض أو لدعم فكرة معينة، سواء أكان ذلك بحسن نية أو بغير حسن نية، نحن لا نخوض في النوايا، نحن نحاول أن نفهم الموضوع المطروح بغض النظر عن أساليب التأثير، أنا في الحقيقة لدي الكثير من الأمثلة التي أستطيع أن أضربها وستكون أروع بكثير من الأمثلة العامة التي طرحتها في هذه الحلقة، ولكن مشكلة الأمثلة الأخرى تمس شخصيات في حياتنا، وللأسف أنني في محاولة مناقشة الفكرة سينظر البعض للمناقشة على أنها ضرب للشخص، لذلك بقيت في حدود الطمأنينة للمستمع حتى يستطيع أن يستوعب الأمثلة بنفسه، ويفكر بنفسه.
المغالطات كثيرة، وأنا في البداية، ولكن أكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وسأكمل المغالطات في الحلقات القادمة، سأتكلم في المرات القادمة عن مغالطة استغلال القصة، وعن مغالطة الاعتماد على الجهل وكذلك المغالطة الثنائية، وهكذا، وسأستخدم شن وطبقة لهذه النقاشات، ولذلك إن كان الحوار بينهما فتوقع أنني أتكلم عن مغالطة.
ألف ألف شكر يادكتور على هذه الحلقة الرائعة التي طال انتظاري لها. الحلقة مميزة ماشاء الله. واتمنى من الله أن يقدرني وأرد لك الجميل في الأشياء الرائعة التي تعلمتها منك.
أنت أكثر من رائع يادكتور واتمنى من الله يعطيك العافية والصحة وطول العمر على طاعته وأن يسكنك الجنة مع الأنبياء لأن العلماء هم ورثة الأنبياء.
وبانتظار الجزء الثاني بشوق فائق. خالص تقديري وامتناني :)
….
وعلى ذكر اليهود في هذه الحلقة ، أود الإشارة إلى كتاب د.عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- (من هو اليهودي) أعتقد أن على
كل مهتم بالقضية الفلسطينية أن يقرأه لأنه يوضح لك حقيقة التركيبة السكانية لليهود في الأراضي المحتلة ، وهل هم فعلاً وحدة واحدة كما يحبون أن يظهروا ، أم أن العنصرية العرقية لها مكان بينهم خاصة أنهم اجتمعوا من أماكن متفرقة حول العالم وينحدرون من أصول مختلفة
…
أهلا يا طالبة ثقافة
أشكرك على كلماتك الطيبة،
أما بالنسبة لليهود، فكان ذلك مثلا، ولم أقصد فيه أن أؤيد أو أخالف، كان المقصود طرح فكرة المغالطة، وكان الهدف تبيان المغالطة حتى لو بمثال نستصعبه.
شكرا لك
حلقة اخرى رائعة وفيها معلومات كثيرة ومفيدة في حياتنا اليومية
الف شكر لك يا دكتور ونحن في انتظار تكملة لهذة الحلقة ليتضح لنا انواع اخرى من المغالطات
أهلا وشكرا لك عزيزي
حلقة رائعة وأكثر من رائعة ، شكراً ،
هل يوجد بالعربية ما يمكن قرأته للتعرف أكثر على الموضوع ، “رغم أني لا أحب القراءة ” :)
السلام عليك الدكتور محمد
يعطيك العافية على ما تقدم لنا من مواضيع هادفة ومفيدة
بالنسبة لي فقد استفد الكثير من مواضيعك
عندي اقتراح للتطوير البرودكاست الا وهو
أن تضع خانة أو أيقونة أو ارتباط يخص عرض المواضيع المكتوبة كاملة لكي يتمكن القاريء باختيار الموضوع الذي يريد
مثل مافعلت بالنسبة للمواضيع المسموعة
خصوصاً مع ازدياد عدد المواضيع
اولا الف شكر يا دكتور ع البودكاست المييز كعادتك مبدع واتمنى لك التوفيق
وبالنسبه لمغالطه الارتباط لا يعني التسبب هذي للاسف منتشره بشكل مخيف خصوصا المثال اللي ذكرت وهو مثال البرد وبدون مبالغه حتى اليابانيين عندهم نفس الربط فهم يسمون الرياح ب kaze وايضا عندما يصاب احدهم بالانفلونزا يسمونها kaze
متشوقة جدا للجزء الثاني من اكتشاف المغالطات
…
اتمنى لك التوفيق ، وكل الشكر لجهودك العظيمة
مجهود طيب
إستفدت كثيرا من المحاضرة
أنمنى لك التوفيق
ماشاء الله يادكتور
جزاك الله كل الخير … كم أعشق تلك التوضيحات ..تلك الكلمات التى لم أكن أظن أنها تقال وتوضح وتكتب وتقرأ …. هذه ترجمة لكل مايدور فى عقلى ويصعب علي شرحه أو تعريفه بالكلام
تصحيح: ابن خلدون لم يقل أبدا ماذكرته وما ينسب إليه في الانترنت عن فائدة الغبار! هذه المقولة لم ترد في مقدمة ابن خلدون نهائيا.
بودكاست عظيم يادكتور ، وشكرا لتدوينه كمقال يسهل الرجوع إليه..