“هنري غوستاف مولاياسون” الرجل الذي أخفي اسمه تحت ستار حرفين H.M. إلى أن توفي لكي لا يضايقه الناس، لا يتذكر أي شيء حصل له بعد عملية المخ الجراحية، فقد أزيل من دماغه الحُصين (hippocampus)، وكل ما يحصل له بعد تلك العملية لا يسجل في ذاكرته، وكل ما يحصل له وإن تكرر جديد. بعد دراسات متتكررة على مدى سنوات، اكتشف العلماء كيف يتذكر البشر، هذه هي قصة الرجل الذي غير نظرة العلماء للذاكرة إلى الأبد.
بعد أن سقط هنري على الأرض في اصطدام دراجة به، أصيب بشرخ في جمجمته، فانتفض جسده بشدة وتذبذب، فقد دخل في صرع شديد، لا يعلم أن كانت السقطة هي السبب في الصرع أم أن جيناته التي ورثها من أهله المصابين بالصرع كانت هي السبب، قد يكون وأنه ورثها، ولكن انطلاق الصرع في حياته يعود لتلك السقطة.
بعد الحادثة تكرر الصرع عليه عدة مرات يوميا، فكان من الممكن يسقط في أي لحظة، ويلتوي على نفسه ويتعصر، ويزبد فمه، وتؤصد جفونه على عينيه ثم يتبول على نفسه، وصلت به الحالة أن تكرر عليه الصرع بقدر 10 مرات في اليوم في بعض الأيام، ولم يكن لينجو اسبوع كامل من غير أن تتلبسه هذه الحالة الكابوسية.
بقي في هذه الحالة ابتداء من عمر السبع سنوات مرورا بأيام المدرسة والتي عانى فيها من مضايقات أصدقائه واستهزائهم به، وازدادت نوبات الصرع حينما وصل إلى سن السادسة عشر، حتى أن وصل إلى سن السابعة والعشرين قرر أن يقوم بعملية جراحية تزيل منه المشكلة إلى الأبد، ولكن ما لم يتوقعه أحد هو أن بإزالة الصرع جراحيا أزيلت معها أهم ما يمتلكه في حياته: الذاكرة.
دخل هنري إلى مستشفى هارتفورد وتحت إشراف الطبيت وليام سكوفيل، عُرف عن الدكتور أنه يقيم عمليات جراحية تجريبية، فاقترح عليه أن يزيل الحصين من دماغه لكي تتوقف معاناته. الطبيب وليام كان جراحا مختصا في المخ، وقد أقام عدة تجارب على البشر لإزالة أجزاء من أدمغتهم، ومن خلال التجارب المتعددة وصل إلى الاعتقاد (كما كان يعتقد سابقا) أن الحصين هو المسؤول عن تلك النوبات، فأقنع هنري بإجراء العملية.
لم يكن يعرف الدكتور وليام النتائج التي تترتب على إزالة هذا الجزء من المخ، فلم يكن أحد يعلم كيف يعمل تماما، كان الاعتقاد السائد أن الحصين هو المسؤول عن العاطفة، وإزالته لن تؤثر إلا على عواطف هنري. وقد أجريت عمليتين لإمرأتين في السابق، وتبين أن الصرع ينخفض عند إزالته منهما، المشكلة أنه الأطباء الذين أزالوا هذه الأجزاء من الإمرأتين لم يتابعوا الحالتين بعد ذلك ليعلموا ما حصل لهما.
أدخل هنري إلى غرفة العمليات، وأزيل 3 إنشات من الحصين، حيث قطعها الدكتور تدريجيا، وكذلك أزال د. وليام اللوزة الدماغية (amygdalae) التي كانت معلقة على أطراف الحصين، وأجزاء أخرى بسيطة، ظن أنها لن تفيد المريض بعد إزالة الحصين. نجحت العملية الجراحية.
عاد هنري لطبيعته بعد أيام، وتحدث مع أسرته بأسلوب طبيعي، واختفى منه الصرع بشكل شبه نهائي. ولكن ظهرت أول مشكلة، حيث فقد هنري 10 سنوات من ذاكرته، ولم يعد يتذكر شيئا قبل العملية رجوعا إلى عشر سنوات في الماضي. والأسوء من ذلك أنه لم يستطع أن يتذكر أي شيء يحدث له بعد العملية. فكلما دخل عليه شخص جديد وتعرف عليه بحرارة، إن خرج ذلك الشخص من الغرفة وعاد، سيتلقاه هنري بنفس الحرارة، وكأنه شخص جديد لم يره من قبل.
السبب لعدم تكوينه لذاكرة جديدة يعود لكون الحصين هو المسؤول عن نقل المعلومات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة الطويلة الأمد، المعلومات تصل إلى القشرة الدماغية عن طريق الحواس، فتسجل مؤقتا حتى يأتي دور الحصين، فيقوم بإنتاج بروتينات تساعد في تضخيم أطراف الخلايا العصبية “آكسونات” (Axons)، وبالتاتي تقوم هذه الأكسونات بتفعيل نواقل عصبية أكثر لجاراتها الخلايا العصبية، وبالتالي تتقوى العلاقات بينها، فتُحفظ المعلومات الجديدة، وبإزالة الحصين لم يعد هنري قادرا على تخزين معلوماته في المخ، فأصبحت كل لحظاته آنية، فيما ما عدا ما يتذكره من الماضي البعيد.
تأثر د. وليام جدا لحالة هنري، حيث لم يكن يعلم أن العملية ستأتي بهذه النتيجة السيئة، وأخفى قلقه لفترة من الزمن، حتى اعترف يوما ما لطبيب آخر قبل أن تنشر ورقة علمية في تأثير إزالة الحصين على الذاكرة. فقد أزال الطبيب الآخر الحصين من بعض المرضى، ولكنه أخذ حذره في عدم إزالة الحصينين من فصي المخ (كما فعل د. وليام)، وأراد أن ينشر ورقة علمية توضح ما حصل للمريض.
كلما خرج هنري إلى الحمام وعاد إلى غرفته، نسي مكانه، فاضطر للسؤال عن الحمام مرة أخرى، لم يعد يتذكر أي اسم لشخص تعرف عليه، حتى أنه لو تناول الطعام ونسي أنه أكل قبل قليل، سيعود لتناول الطعام مرة أخرى، ولذلك كان لابد من العناية بوجباته. فقد هنري قدرته على العمل في وظيفته، وعاش مع أسرته، وتغير صوته ليصبح بلا نغم ولا نبرة، وفقد اهتمامه في الجنس، وحينما كان يشاهد المسلسلات التلفزيونية، لم يكن ليسأم من تكرارها، فكل مكرر بالنسبة له جديد.
وبعدها بدأ سيل التجارب النفسية على هنري لمعرفة كيف تأثرت ذاكرته. بدأت الدكتورة “برندا ميلنر” بسؤاله أسئلة متنوعة لتكتشف ما كان يتذكره، من الواضح أن هنري فقد الكثير من ماضيه ولا يخزن شيئا من الحاضر، لذلك قامت برندا بالتحول إلى دراسة ذاكرته من الناحية “المُحرِّكية” (Motor). وهنا اكتشفت أمرا عجيبا للغاية.
اتضح للدكتورة برندا أن هنري يستطيع أن يتذكر ما يحفظه من الممارسة الحركية، رغما عن فقدانه لقدرة حفظ ما يراه وما يسمعه، فمثلا، رسمت له رسمة نجمة بداخل نجمة، وطلبت منه أن يرسم خطا في القناة بين النجمتين باستخدام القلم، على أن يرى حركة يده وهو يخط بالقلم من خلال مرآة، القيام بهذا الشيء من خلال المرآة هو شيء جديد، ولم يتعود عليه هنري من قبل، وحينما قام بالتجربة بدأ بالخروج من الخط، لأن المرآة تعكس حركة اليد، ليصبح اليمن يسرا واليسار يميا، فكان الخط يخرج بسرعة إلى خارج النجمتين.
كلما عادت الدكتورة لاختباره يوما بعد يوم، تبين أن هنري تتضاعف قدرته على الرسم بداخل النجمة، حتى أصبح قادرا على رسم الخط بدقة كبيرة وبسرعة، رغما عن عدم تذكره بالقيام بالتجربة هذه ولا مرة واحدة. وكأن يده تتذكر، ولكن عيناه نسيتا. حتى أنه لما رأى التجربة للمرة الثلاثون اعتقد أنه سيواجه صعوبة في رسم الخط، ولكن اكتشف أنه كان سهلا بالنسبة له، بالرغم من أنه قام بهذه التجربة لأول مرة في حياته، كما كان يظن.
عندها اكتشفت برندا أن الذاكرة متنوعة، وخلافا لما كان يعتقد في السابق بأن كل أنواع التذكر هي واحدة، وأن المخ يخزنها بنفس الطريقة، اكتشفت أن هناك نوعان من الذاكرة، واحدة تسمى بالذاكرة “التصريحية”، وهي الذاكرة التي تسمح بتذكر أسماء وتواريخ ومعلومات، والأخرى تسمى بالذاكرة “الإجرائية”، وهي التي تسمح بتذكر الأمور الحركية لا شعوريا، مثل مسك القلم، وقيادة السيارة غيرها، وهي أيضا التي نستخدمها في الطفولة لتعلم المشي والتحدث. أما المعلوماتية، فتبدأ لاحقا في العمر. فهل تتذكر شيئا في طفولتك المبكرة؟
وأيضا اكتشفت الدكتورة أن هناك ما يسمى بالذاكرة المؤقتة، ففي يوم من الأيام طلبت من هنري تذكر رقم معين، وعادت له بعد فترة، فتفاجأت أنه يتذكره، كيف يمكن أن يحدث ذلك وهو لا يستطيع يتذكر شيئا؟ تبين أن هنري كان يعيد على نفسه الرقم عدة مرات إلى أن عادت إليه الدكتورة وسألته عنه، ولذا استطاع تذكر الرقم، ولو أن الدكتورة أخلت بتكراره للرقم، وغيرت من تركيزه عليه، لاختفى الرقم من ذهنه إلى الأبد. وهذا الاكتشاف يعني أن الذاكرة المؤقتة موجودة في منطقة أخرى من المخ.
بعد ذلك أتى علماء آخرون لإقامة التجارب عليه، وبعد انتقاله هو وأسرته إلى بيت جديد، طلب منه العلماء أن يرسم خريطة للبيت، وبعد أن تعود على التحرك فيه ذهابا وإيابا مرارا وتكرارا، وبسبب الذاكرة الإجرائية، استطاع أن يرسم خريطة للبيت الذي طبعت تفاصيله بداخل ذهنه بطريقة غير مباشرة.
حتى الوقت كان مختلفا لهنري، حيث أنه يعرف إنْ مرت مدة 20 ثانية من الوقت عليه، ولكنه لم يعرف كم من الوقت مر إنْ فاته أكثر من ذلك، فمرور خمسة دقائق كانت تشعره بمرور 40 ثانية. والساعة لم تكن إلا ثلاث دقائق بالنسبة له، حتى ذلك كان دليلا على أن المخ يعرف الوقت بطريقتين، واحدة ذهبت مع الحصين، والأخرى القصيرة المدى موجودة في مكان آخر من المخ.
دخل إلى دار الرعاية بعد وفاة والداه. وأخفي هو واسمه عن الناس المتطفلين، كان أحيانا يرفض أن يتعاطى الدواء، فكانت الممرضات يهددنه بالدكتور وليام الذي أجرى له العملية قبل سنوات طويلة، فينكسر بسرعة ويستسلم ويأخذ الدواء، حتى وإن كان قد توفي الدكتور منذ زمن بعيد. وبين الحين والآخر يغضب غضبا شديدا إن أغاضه أحدهم أثناء اللعب، فيضرب رأسه بالحائط أو يمسك بفراشه ويهزه كالغوريلا التي تهز قفصها. رغما عن ذلك فقد كان يقضي معظم أوقاته في هدوء.
مئات العلماء درسوا حالة هنري، وفهموا الكثير عن المخ من خلال ذاكرته، وبقي تأثيره معنا في الذاكرة المكتوبة علميا، وإن بقي هو معلقا في الأربعينات. توفي هنري غوستاف مولاياسون سنة 2008 وهو في سن الـ 82، أُخذ مخه، وقطع إلى 2041 شريحة، وصورت الشرائح للدراسة، ثم كشفت قصته للعالم بعد ذلك. وها أنتم الآن تعرفونه، وتعرفون أهميته.
المصدر: Longreads
جميلة القصة وحزينة بنفس الوقت
رائع يا دكتور محمد
فعلا، القصة وإن كانت حزينة، إلا أننا استفدنا منها كثيرا. فشكرا للمسكين هنري.
متى يجي اليوم اللي يلقون فيه العلماء علاج للزهايمير؟
قصه رائعه شكرا يادكتور موقعك جميل جدا