الاشارات الكهربائية الناتجة عن تفاعلات خلايا المخ تعبر عن حالة الاستثارة لأجزاء معينة فيه، هذه الحالة هي نتاج قيام المخ بتفاعلات مختلفة تعود اسبابها لأنماط من الفكر والعاطفة والسلوك والحركة والإحساس. نستطيع أن نضرب مثلا عن حالة الاحساس والاشارات الكهربية، حينما يضع شخصا ما يده على موقد ساخن فان الجهاز العصبي اللاإرادي يقوم أولا بردة فعل عن طريق ابعاد اليد فورا عن الموقد، وذلك قبل ان يعي بالإصابة، ومن ثم يتم ارسال إشارة كهربية من خلال النخاع الشوكي الى الجزء المسؤول عن فرز الإشارات الكهربية في المخ (ثالامس Thalamus)، والذي هو بدوره يرسلها إلى اجزاء معينة في المخ مثل: القشرة الحسية الجسدية، وهي المسؤولة عن الإحساس الجسدي (Somatosensory cortex)، والقشرة الأمامية المسؤولة عن التفكير (Frontal cortex)، والجهاز الحوفي المرتبط بالعواطف (Limbic system). وفي المحصلة يشعر بالألم في اليد، ويفكر فيما حصل له، ويتفاعل عاطفيا حسب شدة الألم.
جميع أجزاء الدماغ تعمل مع بعضها، بحيث يصبح كل جزء منها مسؤولا عن وظيفة محددة بدء من معدل ضربات القلب الى الحالة المزاجية، كل هذه الوظائف تثير انشطة كهربائية متعددة بين خلايا المخ، وبسببها تتكون موجات كهربائية (Brain Waves) يمكن قراءتها من خلال الأقطاب الكهربائية التي توضع على فروة الرأس كما ذكرنا الجزء الأول من هذه السلسلة.
السؤال المهم هو كيف نفسر او نحلل هذه الموجات؟ هل هناك طريقة علمية من خلالها نستطيع ان نتكهن بما سوف يقوم به المخ بتوقيت محدد؟ او ما هي سببية التفاعلات التي تحدث بالمخ؟
لكل موجه خواص تختلف عن خواص الموجات الأخرى، هذه الخواص هي تردد وسعة الموجة الكهربائية (Amplitude and Frequency)، وهي تحدد نوع الموجه (إما دلتا او الفا او بيتا اوثيتا او جاما)، وكما ذكرنا فان كل موجه – بحسب ترددها – تعبر عن حالات بيولوجية مختلفة في الإنسان، وتستثار بأماكن مختلفة في المخ. لقد أكتشف أن هذه الموجات تستثار لأسباب مختلفة، وباستطاعة الباحثين – من خلال قراءتها – أن يحددوا وقت حدوثها، وباستطاعتهم أيضا أن يربطوا هذه المعلومات بمؤثرات خارجية وداخلية.
قام أحد الباحثين بدراسة وتحليل موجات المخ عند قراءة مقالة علمية فوجد ان المخ يقوم بأرسال أوامر وقتية، كذلك اكتشف أن الترتيب والسببية لاستحداث هذه الموجات تتكون بحسب الأوامر التي يرسلها المخ، فأول هذه الأوامر هو ان تبدأ العضلات التي تحاصر العين لتحركها فتساعدها على القراءة، ثانيا، تبدأ العين بالقراءة، ثالث أمر هو أن تُحول هذه القراءات الى معلومات يمكن للمخ أن يفهمها، رابع أمر هو ان تفسر او تحلل هذه القراءات، خامس أمر هو ان يتم استخدام الذاكرة لمعرفة ما إذا كانت المعلومات في المقالة العلمية جديدة أو قديمة، فإن كانت جديدة سيتم تخزينها في المكان المخصص للذاكرة (هيبوكامبس) وإذا كانت قديمة لن يتم تخزينها. تقع جميع هذه الأوامر ضمن نطاق بيتا (β) التي تعبر عن حالة النشاط في المخ، ولكل من هذه الأوامر الخمس توقيت وسبب يختلف عن غيره، وهي تأتي تباعا.. واحدة تلو الآخرى.
يعتبر توقيت صدور الأوامر (التي نقرأها من خلال الموجات) من المخ هو أحد أهم الطرق لتفسير علاقة أجزاء المخ ببعضها البعض، فمن خلال ربط توقيت حدوث الموجه حين يتفاعل الجسم مع مؤثرات داخلية أو خارجية (سواء تحريك العين أو تفسير قراءة المقال أو محاربة مرض أو غيرها) يمكننا فهم آلية عمل المخ، ومن خلالها نستطيع تحديد أماكن التفاعلات، بحيث نستطيع معرفة أجزاء المخ المسؤولة عن حواس الجسم أو المسؤولة عن إصلاح الخلايا المريضة بالجسم او المسؤولة عن محاربة الأمراض وغيرها من التفاعلات البيولوجية.
نجد التوقيت واضحا عند التخطيط لعمل شيء معين، فمخ الانسان كثيرا ما يحدد التوقيت المناسب للقيام بالأعمال. ولنأخذ توقيت الأكل مثلا، فمخ الانسان بطبيعته يضع وقتا لكي يبدأ بإرسال إشارات تأمر الجسد بالأكل، ومن خلال قراءة موجات المخ نرى أن تفاعلات محددة وموقتة بدأت لإصدار هذا الأمر، هذه القراءات وتوقيتها تساعد على تحديد أجزاء المخ المسؤولة عن احاسيس الجوع والعطش.
الامر المهم الآخر هو معرفة سببية (Causality) حدوث الموجة، وتكمن أهميتها في معرفة أسباب استحداث الموجة حين يتعرض جزء معين من المخ الى نوع من الاستثارة. ببساطة يمكن ان تستحدث الموجات بسبب استشعار الجسم لمؤثرات خارجية أو داخلية (مثلا سماع صوت غريب أو لمس موقد ساخن أو التفكير)، والأهم هو معرفة سبب استحداث الموجات لأسباب داخلية في مخ الانسان. فلنأخذ مثلا مرض الزهايمر والدراسات العلمية الحديثة لمعرفة أسباب حدوثه ، نجد ان الزهايمر مرض عصبي يؤدي الى فقدان الذاكرة تدريجيا، ولابد أن يكون هناك سببا يجعل خلايا المخ إما أنها تمسح معلومات الذاكرة (المخزنة) أو أنها تفقد وصلات الأعصاب بين أجزاء المخ ومكان تخزين المعلومات (الهيبوكامبس). الدراسات الحالية تركز على استخدام القراءات الكهربية من خلال دراسة موجات المخ لمعرفة سبب حدوث أعراض مرض الزهايمر, بمعنى آخر، أن يتم دراسة الموجات لمعرفة العلاقة السببية: إما بسبب المؤثرات الخارجية (عن طريق الحواس) او المؤثرات الداخلية (بين اعضاء الجسم وخصوصا بين أجزاء المخ) والتي بسببها تؤدي الى انعدام أو إنشاء التواصل مع الخلايا المسؤولة عن مركز الذاكرة (الهيبوكامبس).
في المقال القادم سأتحدث عن العالم كلايف كرينجر (Clive Granger) وعلاقته بالدراسات السببية التي تستخدم حاليا في علم الأعصاب. ترقبوا!
شكرا جزيلا للدكتور أبراهيم سلطان ولكم. كان الشرح مبسطا وتواضع الرجل جزاه الله وجزاكم خيرا، لله تعالى وتبارك فى علاه. جاء الشرح فى مستوى طالب فى نهائى مرحلة التعليم الابتدائى وهذا تواضع من الدكتور لله تعالى ثم حرصه جزاه الله خيرا على التبسيط.
منطقة الهيبوكامبس حيرتنى منذ يومان للآن، فتوقفت قائلا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وبعد دخولى موقعكم المحترم وجدت أكثر من الهيبوكامبس جزاكم الله خيرا وجعله فى ميزان حسناتكم يوم العرض عليه برحمته فهو رحمن ورحيم السموات والأرض.
أشكركم والدكتور إبراهيم سلطان، مع أمنياتى لكم بقضاء أسعد الأوقات.