شارول شيلتز (Cheryl Schiltz) امرأة توجهت للطبيب لاستئصال الرحم، وبعد عملية روتينية في سنة 1997 عندما كان عمرها 39 سنة، رجعت إلى المنزل بعد أن أعطاها الطبيب مضاد حيوي اسمه جينتاماسين (Gentamicin)، هذا النوع من المضاد الحيوي يجب أخذ الحيطة في تعاطيه، فإذا تعاطاه المريض بكثافة فإنه يدمر الأذن الداخلية، ويمكنه أن يتسبب بفقدان السمع أو يتسبب بالرنين في الأذن، وهو أيضا يدمر التوازن في الأذن، بعد أن أخذت الدواء لفترة أطول من اللازم عطل الدواء قدرتها على التوازن من خلال تعطيل نظام الدهليزي (Vestibular System) في الأذن، فلم تستطع أن تقف على رجليها بعد ذلك من غير أن تشعر بأن العالم يلف من حولها، وإن لم تتكئ على شيء وأغلقت عينيها استدار رأسها والتف العالم من حولها ووقعت على الأرض.
لقد شاهدت لقطة على اليوتيوب لكلب مصاب بهذا المرض، هذا الكلب لا يستطيع التحرك مثل باقي الكلاب، ويحس وكأن العالم من حوله يدور فتجد أن عينيه تتحركان ذهابا وإيابا مع حركة دوران الأرض من حوله، ورأسه مائل يتموج ويدور إلى اليسار، هذه اللقطة موجودة في الأسفل، وسترى أن الكلب متوسد الأرض لا يستطيع التحرك لعدم تمكنه من التوازن.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=2QKN2QE1Icg]
هكذا كانت شارون تشعر، كلما أدارت رأسها كلما تحركت الجدران والأرض من حولها، وبدى العالم لها وكأن مصورا يصوره والكاميرا تهتز في يده بشدة (بعض الأفلام الحديثة مصورة بهذه الطريقة، وبعضها يهتز بشدة، وأعرف أن البعض لا يستطيع أن يكمل هذه النوع من الأفلام لكثرة الاهتزازات فيها، فكيف بشخص يرى هذه الحركة كلما فتح عينيه).
وقعت في المنزل لأول مرة ولم تستطع الوقوف، فاستندت على الجدار إلى أن وصلت إلى الهاتف واتصلت بالطبيب. حينما كشف عليها الطبيب اتضح له أن النظام الدهليزي تعطل في رأسها بنسبة 98%، ولم يتبقى سوى 2% يعمل بشكل سليم، ولو أنها أغلقت عينيها وهي واقفة لسقطت إلى الأرض مباشرة. والأسوء من ذلك أنها كانت حينما تقع على الأرض لا تنتهي معاناتها بعد وقوعها، بل إنها كانت تحس بأن بابا ينفتح من أسفل منها وتسقط فيه إلى الهاوية التي لا قاع لها. عانت شارول بهذا المرض المروع، والكثير ممن يعانون منه عادة ما تصبهم كآبة، وقد تؤدي بهم الكآبة إلى الانتحار، فقدت عملها وعاشت على معونة الدولة بمعاش شهري أقل بكثير مما كانت تحصل عليه في عملها.
ذهبت شارول لعالم متخصص في علم مرونة المخ، اسمه باخ-ي-ريتا (Bach-y-Rita)، لمحاولة علاج مشكلتها التي ليس لها حل، فصنع البروفيسور باخ-ي-ريتا خوذة توضع على الرأس، بداخل الخوذة شريحة إلكترونية تستطيع أن تقيس ميلان الرأس، فإذا ما لبس الشخص هذه الخوذة وأمال رأسه إلى اليمين أو اليسار أو الأمام أو الخلف فإن هذه الشريحة تستطيع أن تستشعر هذا الميلان.
وأنا شخصيا لدي مثل هذه الشريحة الإلكترونية، ويمكن استخدامها لعمل دوائر إلكترونية متعددة للاستفادة منها، فخذ على سبيل المثال الهاتف المتنقل الذي تمتلكه، فيه هذه الشريحة ولو أدرت الهاتف لاستدارت الشاشة مع الهاتف، هذه هي طريقة عمل الشريحة، ولكن السؤال هو كيف يمكن إدخال هذه المعلومات إلى المخ؟ فالمخ هو الذي يفسر الإشارات التي تأتي إليه، ثم يرسل الأوامر إلى الجسد للتوازن.
هنا تأتي العبقرية المفاجئة، بدلا من أن يفتح باخ-ي-ريتا المكسيكي الأصل المخ ليوصل وصلات كهربائية به من الخوذة مباشرة، صنع قطعة صغيرة مسطحة كالعلكة وفيها 144 قطبا كهربائيا، ووضعه على لسان شارول، حينما تلبس الخوذة وتميل برأسها إلى اليمين فإن هذه الأقطاب الصغيرة تعطي إشارات كهربائية على لسانها وتتحرك هذه الشحنة الكهربائية كفقاعات المشروب الغازي إلى اليمين، وإذا ما أمالت رأسها إلى اليسار تحركت هذه الفقاعات إلى اليسار، وهكذا.
اتكأت شارول على طاولة التي أمامها ملامسة لها بإصبعين لأخذ الحيطة خوفا من الوقوع وعيناها مغلقتين، فشُغِّل الجهاز، وإذا بالعالم من حولها يتوقف عن الحركة، فرفعت أصبعيها من الطاولة، فلم تعد تحتاج لأن تتأكئ على شيء، لم يعد ذلك الإحساس الذي لازمها لخمس سنوات وجود، لم تعد تحس أنها ستقع، اطمأنت، فانهمرت الدموع من عينيها وبكت.
وبهذه المعلومات البسيطة التي أدخلت لها من خلال لسانها توازنت، ورفعت يدها من الطاولة، وبعد تخوف بسيط وقفت بلا دعم. أُطفأ الجهاز بعد أبقي على رأسها بعد عدة تجارب لمدة 20 دقيقة، وإذا بها تتحرك بكل ثقة إلى الطبيب ثم تحضنه، وانحنت لتلتقط الأشياء من على الأرض بكل خفة وبلا أي تردد من الوقوع، ولو أنها أقدمت على هذه الحركة قبل التجربة لوقعت لا محالة، بعد العشرون دقيقة بقي معها الإحساس بالتوازن لساعة كاملة. وبعد تمارين عدة وعلى مدى سنة كاملة تدربت على التوازن ورجعت شارول إلى حياتها الطبيعية من غير الحاجة للجهاز نهائيا.
حلقات سابقة ومحاضرات
في حلقتين سابقتين تعرضت للصراع بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي، وبينت أن التفوق لا يزال للعقل البشري، فصحيح أن التكنولوجيا تتقدم بشكل كبير، وأن الكمبيوتر يتفوق على الإنسان في الكثير من الأمور، إلا أنه لا تزال في الإنسان بعض المميزات التي لا تتوفر للكمبيوتر، ومن هذه الأشياء وأهمها هو الأدراك والوعي والمشاعر والروح، في هذه الحلقة سأنهي الصراع من صالح الكمبيوتر، وسأقدم أدلة تبين الحركة في هذه الوجهة، لا بل أكثر من ذلك، سأرد على الفكرة المتعارف عليها عن الروح لأزيل هذه العقبة، والأبعد من ذلك بكثير، سأدعي أن الكمبيوتر المستقبلي سيكون كمبيوترا واعيا مدركا وله أحاسيس ومشاعر.
قدمت محاضرة عن الصراع في عدة أماكن، في هذه المحاضرة أتدرج في طرح قدرات الكمبيوتر التي تفوق قدرات الإنسان، فأبدأ من الآلة الحاسبة، ثم أنتقل لعمليات أصعب، ثم إلى تحدي الذكاء، ثم إلى الإبداع، وإلى أن أصل إلى الأحاسيس والتي لا يمتلكها الكمبيوتر، بعد ذلك أنطلق إلى نمذجة المخ، والتي يعمل عليها العلماء في الدول المتقدمة علميا، فقد أنشأت لها مؤسسات مدعومة بأموال هائلة، وأتحدث عن المشاريع التي تدعم توجه صناعة العقل الإلكتروني، وفي صناعة العقل الإلكتروني هنا ستبدأ المرحلة الجديدة للكمبيوتر، والتي لا شك أنها ستنهي النقاش في ما إذا كانت قدرة الكمبيوتر يمكنها أن تتعدى قدرة الإنسان أم لا، وستنهي نقاش الوعي والإدراك والأحاسيس. بعدما أنتهي من المحاضرة أمام الجمهور تنهال علي سيل من الأسئلة فأجيبها على القدر المتوفر من المعلومات.
أعتذر مقدما من أن الحلقة وإن احتوت على الكثير من المعلومات العجيبة إلا أنها تحتوي على معلومات علمية نوعا ما تخصصية، ربما ستجد في بعض ما سأقول صعوبة، فإن لم تستطيع أن تتابع التفاصيل الدقيقة فلا بأس، أكمل فلن تحتاج للتفصيل لفهم باقي المعلومات.
لنبدأ من البداية، حتى نتذكر إمكانيات الكمبيوتر
في بداية مشوار تغلب الكمبيوتر لدينا الآلة الحاسبة، مما لا شك فيه أن الآلة الحاسبة تستطيع أن تحسب حسابات رياضية بسيطة تتفوق فيها على معظم البشر على وجه الكرة الأرضية، ويمكنها أيضا أن تقوم ببعض الحسابات التي لا يمكن للإنسان أن يقوم بها بنفس السرعة ولا حتى بنفس الدقة، وهذا الأمر لا يشك فيه أحد، انتبه أن النقطة التي أتحدث عنها ليس عمن وضع هذه الإمكانيات في الكمبيوتر، فصحيح أن الإنسان وضع هذه الإمكانيات في الكمبيوتر، ولكن الكمبيوتر تفوق في العمليات الحسابية.
لننتقل إلى المرحلة الأكبر منها، وهي الكمبيوتر الشخصي أو الكمبيوتر الموجود على الهاتف النقال أو أي كمبيوتر حديث سواء أكان من الكمبيوترات البسيطة أو الكمبيوترات الفائقة، كل هذه تستطيع القيام بعمليات حسابية مذهلة، ولا يمكن لأي إنسان أن يقوم بها ولا حتى إن مُدت حياته آلاف السنوات، فمثلا الإنسان لا يستطيع أن يسلسل الجينات بعقله، ولا يستطيع أن يقوم بحساب حالة الطقس، وحالة الطقس تحتاج لكمبيوترات هائلة. إذن، من ناحية السرعة في الحسابات الكمبيوتر متفوق بلا أدنى شك، ولا أحد اليوم يستطيع أن يناقش في سرعة الكمبيوتر.
ننتقل للخطوة التي تليها، كما أن الإنسان يستطيع أن يميز الصوت ويميز الصورة، فمثلا أنت تميز صديقك أحمد من سالم من نظرك لوجهيهما، هذه عملية بديهية بالنسبة لك، وحتى الكمبيوتر بإمكانياته اليوم وبتطور البرمجيات يستطيع أن يميز الأصوات وأن يميز الوجوه، ولذا تجد أن بعض المطارات الآن تحاول الاستفادة من هذه القدرة لتمييز المشتبه فيهم، ولاحظ أن الكمبيوتر يمكنه التعرف على الكثير من البشر اعتمادا على قاعدة بيانات هائلة من الوجوه، وتتعدى قاعدة البيانات هذه في عدد صور الأشخاص تلك الصور المحتفظة في ذهن الشخص الواحد، والتي قضى في حفظها حياته كلها، وقدرة الكمبيوتر على التمييز تتحسن كلما تقدم الوقت وتطورت البرمجيات.
أتذكر أن زملائي أثناء الدكتوراة كانوا يعملون في عدة اتجاهات في تطوير هذه الإمكانية في الكمبيوتر بحيث يمكن التعرف على الشخص خلال الوجه أو الأذن وحتى من خلال المشي من الخلف، لو أنني الآن قدمت لك صورة لأذن أحد إخوانك، فهل تعتقد أنك تستطيع أن تتعرف عليه؟ ربما إذا كانت أذنه تحتوي على علامة مميزة جدا ستقدر على ذلك، أما عدا ذلك فلن تستطيع أن تميز الأذن، أما الكمبيوتر فيستطيع تمييز الأذن هذه بتفاصيل لا يستطيع أن يميزها الإنسان. وحتى في البصمة، الكمبيوتر اليوم يستطيع أن يميز البصمات بتفوق على الإنسان، إذن التفوق في التميز يتقدم فيه الكمبيوتر، وإن كان للإنسان الغلبة العامة في هذا المجال، ولكن الكمبيوتر يتحسن يوميا، والعلماء يعملون على ذلك ليل نهار.
نأتي للنقطة التي بعدها، الكمبيوتر اليوم يستطيع أن يتفوق على الإنسان في لعبة الشطرنج، كما ذكرت في الحلقات السابقة في الصراع أن الكمبيوتر استطاع أن يغلب أكبر لاعبي الكمبيوتر في العالم: جاري كاسباروف وفلاديمير كرامنيك، والغلبة لم تأتي من السرعة فقط، بل إن قدرة الكمبيوتر على التحليل والتفكير – إن صح التعبير – تخطت احتياج الكمبيوتر للسرعة، لأن التحاليل أصبحت أكثر تعقيدا.
وبعد ذلك نأتي لقدرة الكمبيوتر على تحليل الألغاز وإيجاد الحلول لها، وهذه ربما كانت خاصية للإنسان في السابق حيث كانت للإنسان القدرة على فهم الألغاز المجردة، أما الآن فإن الكمبيوتر يستطيع أن يقوم بذلك أيضا، وبشكل أفضل، ولذا فالكبيوتر يستطيع اليوم أن يتغلب على أكبر المتسابقين في حلبة الألغاز كما ذكرت ذلك في الحلقات السابقة، بل أنه قادر على قراءة وتحليل مليون صفحة في الثانية الواحدة، ومع الوقت ستتطور هذه الإمكانية لتصبح عدد الصفحات أكبر والتحاليل أعمق. إذن، الكمبيوتر اليوم يستطيع أن يتفوق على الإنسان بقدرته على تحليل الأمور بشكل أفضل وبسرعة أكبر.
تسجيل صوتي 1 و2
الفكرة هنا تتلخص في أن الكمبيوتر لا يستطيع أن يخرج خارج نطاق برمجته، فإذا ما تعرض لموقف جديد لن يستطيع أن يجد له حلا. أولا لأوضح نقطة مهمة وهي أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل بطريقة “الإف ستيتمنتز” (If Statements) أو تعابير “إذا كان كذا فافعل كذا”، برنامج لعبة الشطرنج التي تستطيع أن تغلب البشر كلهم اليوم ليست مبرمجة باحتمالات اللعبة كلها، لماذا؟ لأن عدد احتمالات الحركات في لعبة الشطرنج هي 10^120، أو 1 وأمامه 120 صفرا بحسب العالم الرياضي المهندس كلود شانون (وهو أب نظرية المعلومات)، هذا يعني أنه لو أن اللعبة انتهت بعد أربعين حركة، ولو أن الكمبيوتر أراد أن يأخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات لاحتاج إلى 10^90 سنة، أو 1 وأمامه 90 صفرا للقيام بالحركة الأولى استنادا على أفضل حركة مستقبلية تعطيه الفوز كما يقول شانون، وبرأيي لو أن المبرمجين على وجه الكرة الأرضية من مات منهم ومن حيي مجتمعين أرادوا أن يبرمجوا كل احتمالات لعبة الشطرنج لاحتاجوا لمدة أطول من عمر الكون كله عدة مرات.
اليوم البرمجة بدرجة من التعقيد كبيرة والقرارات لا تتخذ بناء على “إفعل كذا حينما تواجهك مشكلة كذا” البرنامج اليوم يستطيع أن يخرج باحتمالات غير مبرمجة فيه. فمثلا لعبة الـ”تي دي جامون” (TD Gammon) وهي التي تلعب لعبة النرد استطاعت أن تبتدع طريقة جديدة للعب، لم تخطر هذه الطريقة على أذهان البشر، واليوم هذه الطريقة التي ابتعدها الكمبيوتر يستخدمها البشر في المسابقات. إذا المبدأ القائل أن أن الكمبيوتر لا يستطيع أن يبدع خارج برمجته هو غير صحيح وهناك أدلة تجريبية على ذلك تفوق فيها على الإنسان.
ثانيا، من قال أن الإنسان يعمل خارج برمجته؟ أنت طوال حياتك وتتم برمجتك بالمعلومات والأفكار وغيرها من الأمور، ومن خلال هذه المعلومات أنت تبتدع أفكار جديدة (كما في حال الـ”تي دي جامون”)، حينما ولدت ومنذ ذلك الحين وأنت تتم برمجتك، والديك علماك ماذا تقول وكيف تقول ومتى تقول وفي من تقول، والمدرسة برمجتك على حل المسائل الرياضية، ورجال الدين علموك أمور الدين، وما إلى ذلك، فهل نحن نولد وبغريزتنا الطبيعية نعرف القراءة أو الكتابة؟ أو هل نعرف كيف نضرب 345×567؟ أو هل نعرف أي دواء يعالج أي مرض؟ كل هذه المعلومات تعلمناها وبُرمجنا عليها طوال حياتنا. وإذا قلت أن الإنسان استطاع أن يبدع هذه المعلومات، أعود لأذكرك أن برامج الكمبيوتر اليوم تستطيع أن تبدع الموسيقى أو الرسم واللعب.
تسجيل صوتي 3
في هذه النقطة إعادة لفكرة البرمجة، والفكرة أن الإنسان هو الذي برمج الكمبيوتر فكيف للكمبيوتر أن يتغلب عليه؟ من الواضح أن الكمبيوتر تغلب في عدة مجالات، حتى وإن كانت مجالات جزئية، فتغلب الكمبيوتر على الإنسان في الشطرنج وإن برمجه هو فهذا دليل على تغلب الكمبيوتر، ليس هناك ما هو أوضح من ذلك، وحينما تغلب واتسون على البشر في الإجابة على الألغار فهو قد تغلب، لا أستطيع أن أفهم معنى أن الإنسان هو الذي برمج الكمبيوتر وذلك يعني أن الكمبيوتر لا يغلب الإنسان، تغلب واتسون في المسابقة واضح، وتغلب ديب بلو وديب فريتز على أقوى منافسيهم واضح، وواضح أيضا أننا برمجنا الكمبيوتر، فما المشكلة هنا؟
المشكلة في الحقيقة هي ما ذكره جبيلي عبد الغني في النصف الثاني من المقطع، وهي التي تعيق التفكير، وهي مغالطة واضحة، وهي حجة دائما تقال لي: “الله خلق الإنسان، وبما أن الله هو خالق الإنسان، فالإنسان لا يستطيع أن يتغلب على الله، وكذلك البشر، هم الذين برمجوا الكمبيوتر إذن الكمبيوتر لا يستطيع أن يغلب البشر” وهذه مغالطة هائلة، أولا هناك فرق بين الإنسان والله، الله كامل والإنسان ناقص، والله قادر على كل شيء والإنسان ليس كذلك، والله لا يمكن قهره والإنسان ضعيف بالمقارنة، فلا مقارنة بين خلق الله للإنسان وبرمجة الإنسان للكمبيوتر، ولا يعني أن عدم قدرة الإنسان على التغلب على الله أن ينتقل هذا النقص الطبيعي إلى الكمبيوتر، بحيث لا يستطيع أن يغلب الكمبيوتر الإنسان، وقد عددت الكثير من التغلبات الواضحة.
قصة بيدرو وإعادته للحياة الطبيعية
بيدرو هو شاعر وأكاديمي أصيب بسكتة دماغية حينما كان عمره 65 سنة، وشل نصف جسده ولم يستطع أن يتحرك أو يتكلم، اعتقد الأطباء أن بيدرو لا يمكن أن يتعافى بعد هذه السكتة، ولذا قرروا أن أفضل مكان له هو دار العجزة، ابنه جورج الذي كان يدرس في كلية الطب لم يتقبل هذه الحتمية، وأخذ أبيه إلى الأطباء لإعادة تأهيله، وبعد محاولات عديدة، لم يتقدم أبوه شيئا، لم يكن أحدا يعتقد أن المخ بإمكانه إعادة قدراته مرة أخرى، فقرر أن يأخذه معه إلى منزله ليحاول هو بطريقته الخاصة علاج أبيه. جورج كان يساعد اباه في كل شيء حتى أنه كان يحمله إلى الحمام ويساعده في السباحة.
لم يكن جورج متخصصا في إعادة التأهيل من الناحية الطبية، ولكنه ابتدع طريقة ربما تكون أبسط طريقة وأقرب للطفولة، قرر أه بدلا من أن يعلم أباه كيف يمشى على اثنتين علمه كيف يمشي على أربع، كما أن الطفل في بداية حياته يقوم بذلك فكذلك الأب عليه أن يبدأ بعد كل هذا العمر ما بدأه قبل 65 سنة، ألبس الأب دعامات ناعمة للركب، وبدأ جورج بتدريبه على الحبو استنادا على الحائط بجانبه المشلول، فتحرك الأب قليلا بعد عدة ساعات من التمارين اليومية قليلا.
العملية لم تكن سهلة، والبداية كانت فيها مشقة كبيرة، والتقدم كان بطيئا، وبعد أربعة أشهر أخرج جورج أبوه إلى الحديقة ليحبو فيها، فتضايق الجيران من سوء معاملة الإبن لأبيه، فكيف لإبن يجعل أبوه يمشي كالكلب على أربع. ومن الطرافة أنه كان يرمي لأبوه البلية ويطلب من أبيه ملاحقتها ليصطادها، فعلا معاملة تبدو للغريب وكأنها سيئة، ولكن البوادر الطيبة بدأت بالظهور.
وبعد تمارين على مدى طويل بدأ الأب وبمساعدة جورج بالجلوس على الطاولة وإطعام نفسه، وبمحاولات أخرى تطورت قدرة بيدرو على التحدث شيئا فشيئا، وبعد ذلك أضيفت تمارين جعلته قادرا على الطباعة على الآلة الطابعة، ففي البداية كان بيدرو يعلق يده فوق الطابعة ويجهز الإصبع للهبوط على المفتاح، فإذا ما أتى الإصبع فوق المكان الصحيح أسقط يده عليه، وطرق الإصبع المفتاح، إلى أن تمكن بعد عدة تمارين أن يطبع باستخدام أصابعه بشكل طبيعي.
وبعد سنة كاملة من التمارين، عاد بيدرو مرة أخرى للجامعة للتدريس فيها، وتزوج مرة أخرى، وسافر. حتى أنه تمكن من المشي مسافات طويلة وصعود الجبال، وعاش بعد ذلك لسبع سنوات، وتوفي من أثر سكتة قلبية أثناء ارتفاعه إلى علو 6000 قدم على جبل وهو في الثانية والسبعين من عمره.
أُخذت جثة بيدرو إلى غرفة التشريح حيثما كان يعمل بول الإبن الثاني لبيدرو وأخو جورج، وقامت دكتورة متخصصة بتشريح الجثة، وفتحت رأسه للكشف عن السبب الذي أدى لوفاته، وفتحت المخ واتصلت ببول وهي مبتهجة تدعوه للحضور ليرى بنفسه ما اكتشفته، أتى بول إلى غرفة التشريح وإذا بقطع من مخ أبيه على الطاولة، استاء جدا من هذا المشهد واقشعر بدنه.
نظر بول الطبيب إلى مخ أبيه، وتعجب، فكيف يمكن لأبيه أن يقوم بكل ما قام به من أنشطة ومخه تالف بهذه الدرجة، فالمناطق المخصصة للحركة كانت كلها تالفة، وأن 97% من هذه الأعصاب المتصلة بالنخاع الشوكي لم تعد تعمل، ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أن المخ أعاد تنظيم نفسه ليتفادى المناطق المُدَمرة، لتعود له قدرته على الحركة مرة أخرى.
بعد ذلك تحول مجرى حياة بول إلى دراسة المخ والخلايا العصبية، لفهم الكيفية التي يعود بها المخ المرن لإصلاح نفسه، فصنع عدة اختراعات منها ما مكّن الأعمى من الإبصار عن طريق إشارات من على الظهر، وصنع برامجا يعيد الحركة لليد بعد تعطلت المناطق التي تحرك اليد في المخ، وكذلك أعاد الحركة في الوجه للكثير من الناس الذين فقدوا الإمكانية لتحريك وجوههم، فقلب بعلمه ما رآه من مخ أبيه إلى إنجازات لم يكن يُعتقد أنها ممكنة. من هم جورج وبول وبيدرو؟ إنهم جورج وبول وبيدرو باخ-ي-ريتا، بول هو العالم الذي صنع الخوذة لشارول وأنقذها من معاناة الدوران التي عانت منها لخمس سنوات.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=7s1VAVcM8s8]
المخ لا يتوقف عن النمو
مثل تلك القصتين اللتين ذكرتهما قبل قليل هناك العديد والعديد من القصص التي تؤكد على أن المخ لا يتوقف عن تغيير نفسه، وأن الاعتقاد السابق أن المخ مثل الأجهزة التي حينما يتعطل فيها شيء فإنه لا يمكن إصلاحه فهو مبدأ غير دقيق، أثبت العلماء المعاصرين أن المخ وإن كان ينقسم إلى عدة مناطق متخصصة في عمليات معينة، إلا أنه إذا تعطلت بعض أجزائه فلا يعني ذلك أن المخ غير قادر على التكيف، فتركيبة المخ مرنة إلى درجة أنه لا يمكن أن تقارن بجهاز مكون من أجزاء متخصصة فقط، كان الاعتقاد السائد أن المخ يعمل كما تعمل الساعة، فلو أن ترساً انكسر فيها فذلك يعني أن الساعة لن تعمل بعد ذلك، وبما أنه من الصعب تبديل الترس الذي تعطل، فذلك يعني أن المخ لا يمكن إصلاحه، ولكن المكتشفات الجديدة تدل على أن المخ قادر على التشكل والتغير والتكيف إن عُرف المفتاح لإعادة تأهيله.
الكثير من الناس لديهم الاعتقاد أن المخ يتوقف عن النمو أو أنه لا يتغير بعد أن يكبر الإنسان أو أنه لا ينتج خلايا جديدة، ظل هذا الاعتقاد سائدا إلى فترة طويلة، ورُفضت الكثير من الأوراق العلمية بل أن بعض العلماء الذين اكتشفوا أن المخ مرن ومتغير وأنه يكبر استهزئ بهم ولم تقبل أوراقهم العلمية، ولكن العلم اليوم وبعد عدة اكتشافات من جامعات متعددة توصل إلى أن المخ مرن بطرق مختلفة، فمنها ما هو وظيفي (Functional) ومنها ما هو بنيوية (Structural)، منها ما يطلق عليه بـ”نوروجنيسيس” (Neurogenesis). كل من هذه الطرق تعدل على المخ وتنمي قدرات الإنسان إلى حدود كبيرة جدا، حتى وإن وصل إلى نهاية عمره، طبعا مع اختلاف السرعة والدرجة. صحيح أن الكثير من الأمور تتثبت في المخ ومن الصعب تغييرها ولكن لا يعني ذلك أن الأمر مستحيل.
سأذكر واحدة من التجارب المثيرة التي ربما ستغير من تفاعلك مع العالم من حولك، وهي تجربة القطط، أقام العالمان هيلد وهاين (Held and Hein) تجربة على قطط صغار بعد ولادتهم بفترة قصيرة، تحتاج لأن تركز معي وتتصور ما سأذكره الآن حتى تعرف كيف تعمل هذه التجربة ثم نأتي إلى النتائج، ربما لن أشرح التجربة كما كانت بالضبط، ولكني سأذكرها بطريقة مبسطة حتى تصل الفكرة.
تجربة القطط
وضع العلماء قطتين كل منهما في سلة معلقة، واحدة على اليمين، والثانية على اليسار، جسم القطط بداخل السلة، ولكن رأسهما خارج السلة، بحيث تستطيع كل واحدة من القطط أن ترى العالم من حولها، نأتي إلى الفرق بين وضع القطتين، في القطة الأولى أخرج العلماء أرجلها خارج السلة من خلال ثقوب في أسفلها، بحيث يمكن أن تتحرك القطة كما تشاء، أما القطة الثانية فكانت أرجها بداخل السلة ولا تستطيع الحراك، كل ما تستطيع فعله هو المشاهدة.
القطتين معلقتين في السلة بواسطة عامودين رأسيين، والعمودين الرأسيين متصلان ببعض بعمود أفقي من الأعلى، ربما شاهدت بعض الأفلام التي يحمل فيها شخص عصاة، وعلى أطراف العصاة يتعلق دلوين من الماء بواسطة حبال، استبدل الحبال بأعمدة، واستبدل الشخص الذي يحمل العصاة على ظهره بعمود يعلق هاتين السلتين.
نعود للقطة التي أخرجت أرجلها من السلة، هذه القطة حينما تتحرك فإنها تحرك القطة الأخرى، تخيل أن الأعمدة متصلة ببعضها بتروس بحيث أن القطة الأولى تحرك القطة الثانية، فحينما تتحرك القطة الأولى على أرجلها فإنها تحرك القطة الثانية بنفس الطريقة، وحينما تستدير القطة الأولى فإن القطة الثانية تستدير معها، فأي حركة تقوم بها القطة الأولى باختيارها تقوم بها القطة الثانية بلا اختيار منها. وذلك يعني أن القطة الأولى ترى العالم وتتحرك به بأرجلها وتتفاعل معه، أما القطة الثانية ترى العالم كما تراه القطة الثانية ولكن من غير أن تحرك أرجلها للتفاعل معه (تستطيع أن ترى الرسمة التالية التي تبين الطريقة التي وُضعت فيها كل من القطتين في السلتين، أحب أن أؤكد أن هذه الصورة لا تمثل الصورة الحقيقة للبحث العلمي، هناك اختلاف شكلي).
قام العلماء بوضع القطتين في السلتين لمدة ثلاث ساعات يوميا في النهار، وأما باقي الوقت فقد وضعوا القطتين في غرفة مظلمة مع أمهم لتلعب القطط ولتأكل بشكل طبيعي، وفعلوا هذا الشيء لعدة أيام متتالية. وهنا النتيجة العجيبة، بعد أن أطلقوا القطتين بحرية كاملة للمشي على الأرض في وضح النهار تبين أن القطة التي كانت أرجلها بداخل السلة كانت عمياء، فقد كانت تصطدم بالأشياء وتقع من أعلى السلم، بينما القطة التي كانت تتفاعل برجلها مع العالم الذي تراه استطاعت أن ترى ما حولها وتمشي من غير أن تصطدم بشيء.
ما الذي حدث في هذه التجربة؟ لماذا أصبحت القطة الأولى قادرة على الإبصار بينما القطة الثانية عمياء؟ بالرغم من أن كل قطة كانت ترى ما تراه القطة الأخرى؟ فما الفارق بينهما؟ الفارق أن القطة الأولى تفاعلت مع ما حولها بأرجلها فتطور مخها بحيث ترتبط الخلايا المتعلقة بالبصر مع تلك التي تصدر الأوامر للرجل، بحيث يمكن لها أن تعرف كيف تضع رجلها على الأرض نسبة إلى ما حولها، بينما القطة العمياء لم تلتحم الخلايا العصبية بالعين بحيث تتفاعل مع العالم الذي حولها. وبذلك أصبحت القطة عمياء.
وبعد أن تُركت القطة لتعلب وتتفاعل مع العالم الذي تعيش فيه عاد لها بصرها، لماذا لأن المخ أعاد توصيل القنوات المختلفة للعين، وبذلك أصبحت القطة مبصرة مرة أخرى.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن من خلال التفاعل مع العالم الذي نعيش فيه فإن خلايا المخ تنمو لتتواصل ببعضها، عندها نتمكن من أن نفهم العالم بالشكل الصحيح، ولذا إذا أردت أن تفهم العالم لابد أن تتفاعل معه بيديك ورجليك وسائر جسدك. والأهم من ذلك أنه لابد أن يكون تفاعلك مع العالم بقصد وباهتمام، فخلايا المخ لا تبنى إلا بالتفاعل النشط وباهتمام وتركيز. أما عدا ذلك فقد أثبتت العديد من التجارب أن المخ لا ينمو ليتعلم.
وهناك أيضا نقطة مهمة جدا، وهي أن القطة لم تفقد عينها، ولم تتضرر في هذه العملية، بل إن الضرر وقع في المخ، وهذا يعني أن الإنسان لا يبصر بعينه إنما يبصر بمخه، فالعين ليست إلا أداة تدخل الإشارات إلى المخ، وأما ما تراه من حولك إنما يتم تفسيره وفهمه في المخ، وهناك أيضا تجارب تدل على أن هناك من فقدوا أبصارهم ولكنهم يرون صورا غير حقيقية في أذهانهم، ويخيل لهم أنهم يرون كما ترى أنت، الفارق أنهم يصطدمون في الأشياء وأنت لا تصطدم، فمخ أولئك الناس يصور لهم صورا وكأنما تأتي من العالم الخارجي، خارج أجسادهم، ولكنهم يرون عالما غير حقيقي. ولذلك الرؤية لا تتم في العين إنما تتم في المخ.
التعرف على المخ
ما هي تلك الأشياء التي تسمح للمخ من التغير والتكيف مع التعلم، ولماذا لدى المخ القدرة على تخطي التدمير الكامل لأجزاء مهمة فيه؟ وكيف يتغير المخ وينمو؟ الآن لنفهم تراكيب المخ الأولية، ولنبدأ مع أب علم الخلايا العصبية، وهو العالم الإسباني الحائز على جائزة النوبل سانتيجو راموني كاهال (Santiago Ramon Cajal)، هو العالم الأول الذي بحث في الخلية العصبية ورسمها، وهو المؤسس الأول لعلم الخلايا العصبية.
حتى نعرف عظمة محاولة فهم المخ لابد أن نعرف أن المخ الذي يزن حوالي كيلو ونصف، ويحتوي على 86 مليار خلية عصبية، والخلايا هذه مرتبطة مع بعضها البعض بوصلات عصبية تقدر مليون مليار وصلة عصبية أو ما يسمى بالسينابس (Synaps)، وهذا العدد هو أعظم عددا من أكبر تقدير لعدد النجوم في مجرة درب اللبانة بقدر 5000 آلاف مرة، وذلك يعني أن الخلية العصبية الواحدة متصلة بحوالي 10,000 خلية أخرى من خلال الوصلات العصبية الملقبة بالدندرايتات. ولو أنك تأخذ من القشرة الدماغية (Cortex) للحيوانات الثدية ما يعادل حبة من السكر لوجدت أنها تحتوي على متوسط 30,000 خلية، ومئة مليون وصلة بين الخلايا، أرقام فلكية بالتأكيد.
حينما تتعرف على هذه الأرقام يمكنك أن تتصور كم هو حجم الخلية الواحدة في المخ، إنها صغيرة جدا، صحيح أن أحجامها تتفاوت، ولكنها لا تزال صغيرة بالمقارنة مع ما نعرفه عن الأحجام المتعارف عليها، حينما أراد رامون أن يتعرف على الخلايا صبغها أو بقعها بمادة الفضة، وتميزت هذه الطريقة بأنها تصبغ الخلية مع تفرعاتها المختلفة بحيث يمكن تمييزها، بدأ برسم الخلايا المختلفة في المخ وهو ينظر إليها في المجهر، فكوّن عدة رسومات للخلايا وحاول أن يفهم كيف تتفاعل مع بعضها البعض.
هناك عدة أشكال من الخلايا العصبية في المخ، وواحدة من تلك الأشكال تسمى بالخلية الهرمية (Pyramidal)، الخلية العصبية هذه تتكون من جسم ويتفرع منها ما يسمى بالدندرايتات المتصلة بالخلية، ويخرج من هذه الخلية خط واحد يسمى بالآكسون، ومن الآكسون بعد ذلك تتفرع أطراف مختلفة.
لنتخيل هذا الشكل، حاول أن تتخيل شجرة كاملة من غير الأوراق، الشجرة لديها جذور، وساق، وأغصان، الجذور تعادل الدندرايتات، والساق هو الآكسون، والتفرعات من الآكسون هي أغصان الشجرة، الجذور أو الدندرايتات يتفرع منها أشواك أو أفرع صغيرة تسمى بـ (Spines)، هي ليست في الحقيقة أشواك مدببة، تستطيع أن تشببها بالنقاط اللاصقة على أذرع الأخطبوط (على اعتبار أن الدندرايت هي أذرع الأخطبوط)، جسم الخلية ستكون في هذه الحالة مباشرة في أسفل الساق ومتصلة بالجذور (شاهد الصورة التالية). هناك عدة أشكال أخرى لخلايا عصبية ولها أسماء مختلفة ولكن لا نحتاج لأن نخوض فيها.
كيف تتواصل الخلايا مع بعضها؟ الطريقة التي تتواصل بها الخلايا في المخ هي أن تتصل أطراف الأكسونات مع الأفرع أو الأشواك الصغيرة الموجودة على الدندرايتات، فتخيل الشجرة مرة أخرى، ستجد أن أغصان الشجرة متصلة بنقاط في جذور عدة شجرات أخرى، فتتصل الخلايا ببعضها في المخ لتكون شبكة تسمى بشبكة متوازية بضخامة (Massively Parrallel)، أي أن الخلايا متصلة مع بعضها البعض بوصلات متوازية هائلة، وقد ذكرت أن الخلية الواحدة متصلة بعشرة آلاف وصلة.
لنتذكر أن الخلية الواحدة يخرج منها آكسون واحد (ساق الشجرة)، ويتفرع منها أطراف كثيرة، وكل أكسون يمتد من مسافة قصيرة جدا بالقرب من الخلية إلى مسافة متر أو أكثر، فمثلا هناك أكسونات تنطلق من أسفل الظهر إلى طرف إصبع القدم. تخيل هذا السلك – إن صح التعبير – أنحف من شعرة بقدر 100 مرة تقريبا، ويصل هذه المسافات الطويلة في الجسم.
استطاع العلماء أن يصلوا إلى هذه الخلايا الصغيرة جدا بخفة ورشاقة تفوق الوصف، حيث تمكنوا أن يُوصلوا بها أسلاك كهربائية نحيفة وصغيرة جدا لقراءة الإشارات الكهربائية الصادرة منها. بدأوا بالخلايا العصبية للأخطبوط لكبر حجمها وانتقلوا تدريجيا إلى خلايا باقي الكائنات، واستطاعوا أن يعرفوا كيف تطلق هذه الخلايا العصبية إشاراتها لوصل هذه الشبكة الضخمة مع بعضها البعض، واليوم لدى العلماء القدرة على معرفة أي خلية أو أي مجموعة من الخلايا من المخ تطلق إشاراتها الكهربائية حينما تحرك إصبع يدك أو رجلك أو رأسك، أو حتى لأي حركة في جسدك أو حتى لأي فكرة تمر في رأسك. لا بل يستطيع العلماء اليوم أن يقلبوا العملية، فبإمكانهم أن يضربوا الخلية بإشارة كهربائية لتحريك أي جزء من جسمك، وحتى أنهم قادرون على التأثير على أفكارك.
تجربة أقيمت على متطوعين من المرضى بنوبات صرع (Epileptic Seizures) تُبين كيف تتفاعل الخلية العصبية الواحدة مع من تعرفه حينما تنظر إليه، قام العلماء بوضع وصلات كهربائية صغيرة جدا في مخ المتطوعين، ووجهت هذه الوصلات الكهربائية إلى مناطق محددة في المخ، بل إن الوصلة وجهت لخلية واحدة، وأبقوا المتطوعين في حالة وعي. فأروهم صورا لممثلين وممثلات واحدة تلو الأخرى، وراقبوا خلية محددة، هذه الخلية في المخ لم تطلق إشاراتها الكهربائية حينما رأت أي من الممثلين المختلفين، فلقد كانت هادئة، ولكن حينما رأى المرضى صورة للممثلة الجميلة جينفر آنيستون انطلقت هذه الإشارات بهيجان شديد من تلك الخلية، وإذا أزال العلماء الصورة تتوقف هذه الخلية عن إطلاق إشاراتها، ولو أنهم أروا المرضى صورا لجينفر وهي تلبس لباسا مختلفا، وكانت الصورة بخلفيات مختلفة، وبمكياج مختلف فإن الإشارات أيضا تنطلق، فهي متخصصة بالممثلة جنيفر آنيستون فقط. فسميت هذه الخلية بخلية جينفر آنيستون.
وهناك الكثير من الخلايا الأخرى التي تتخصص بأشخاص أنت تعرفهم، وبالحيوانات، والسيارات التي تعرفها، وبالطائرات وحتى بالسايوير بودكاست، فهناك خلية خاصة له، وهكذا، كل هذه تطلق إشاراتها حينما ترى تلك الأشياء، بالطبع هذه الخلية متربطة بخلايا أخرى تؤثر عليها وتتأثر منها، ولكن تظل هذه الخلية خاصة لشخص أو لشيء واحد فقط لا تتهيج إلا برؤية ذلك الشخص. أو شيء متربط بذلك الشخص.
كيف يؤثر التعليم على المخ؟
كيف يؤثر التعليم على المخ؟ علمنا أن في المخ خلايا عصبية، والخلية العصبية لها جسم (Cell Body) ولها جذع واحد (آكسون) متصل بالجسم، ولها جذور أيضا متصلة بالجسم (ديندرايتس)، ومن الديندرايتس تخرج أشواك صغيرة، وهذه تتصل بتفرعات تخرج من الأكسونات. الآن نتساءل ماذا يحدث حينما تلمس شيء أو تشم شيء أو ترى شيء أو تميل برأسك أو حينما تفكر بفكرة أو تشعر بشعور؟
هناك تفاصيل تقنية علمية دقيقة سأحاول أن أتفاداها، وسأبسط الفكرة بقدر الإمكان. الخلايا العصبية تطلق إشاراتها الكهربائية، وهذه الإشارات الكهربائية تتحول إلى عمليات كيميائية بين خلية وخلية عند نقاط التلاقي بين الوصلات (السينابس)، ثم تتحول العمليات الكيميائية مرة أخرى إلى إشارات كهربائية، إذن هناك كهرباء ثم كيمياء ثم كهرباء، وهذا النهج الذي تنتهجه الخلايا يسمى بالعملية الوظيفية (functional)، وهي تحدث بسرعة كبيرة في المخ وبشكل متوازي بين الخلايا. ويرافق هذه الحركة تدفق للدم في المخ.
ومن خلال هذه الحركة الدموية التي تحدث في المخ استطاع العالم جاك جالانت (Jack Gallant) أن يصور ما تراه بالعين عن طريق تصوير تدفق الدم في قشرة المخ البصرية في خلف الرأس باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ثم تحويل هذا التدفق الدموي باستخدام قوانين رياضية تعالج هذه الإشارات، وبناء على القوانين الرياضية أخذ لقطات من اليوتيوب لتكوين لقطة فيديو لما يراه الشخص. إذن يستطيع العلماء أن يعيدوا تصوير ما تراه من خلال الإشارات في المخ.
وأيضا استطاع العلماء في اليابان – وإن بنجاح بسيط – أن يصورا الأحلام، درجة الوضوح في تلك الصور ليست عالية بعد، ولكن الخطى في اتجاه إيضاح هذه اللقطات بدرجة أكبر بكثير، وهذا يعني أنه في المستقبل سيتمكن العلماء من قراءة المخ حتى من غير لمسه أو الدخول إلى داخله. ولربما يوما ما ستشتري من السوق جهازا تضعه على رأسك قبل نومك، وفي الصباح تقوم لتشاهد أحلامك.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=zjrhq-6v07k]
أضف لذلك أن من خلال التواصل مع هذه الإشارات استطاع العلماء أن يأخذوا الأوامر من الخلايا العصبية من المخ مباشرة، بحيث مكّنوا إمرأة معاقة مشلولة بكامل جسدها أن تتحكم بذراع روبوت، واستطاعت أن تحرك الروبوت ليقدم لها الشراب والطعام. وكذلك استطاع العلماء من هذه الإشارات أن يربطوا بين فأرين عبر الإنترنت بحيث يتخاطب فأر في الولايات المتحدة الأمريكية مع آخر في البرازيل للقيام بمهمات بسيطة جدا، لم يعد التخاطر خياليا، ولكننا استبدلنا التخاطر الوهمي بتخاطر عن طريق التيار الكهربائي الناتج من الخلايا. لك أن تتخيل ما هي نتائج مثل هذا النوع من التواصل الذهني الإلكتروني.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=ogBX18maUiM]
نعود للتعلم مرة أخرى، إذن فالتعلم يحرك هذه الإشارات في المخ ويطلقها بنظام معين، وكلما أطلقت هذه الإشارات فتحت قنوات جديدة بين الخلايا لنقل المواد الكيميائية، وكلما فتحت قنوات جديدة كلما تكونت لدى المخ ذاكرة جديدة، وبهذه الطريقة يتعلم صاحب المخ أمور جديدة، وهذه طريقة من الطرق التي يتعلم بها الشخص المعلومات ليضيفها إلى معلوماته الحالية. وكما ذكرت هذه تسمى بالطريقة الوظيفية.
هناك طريقة أخرى للتعلم، وهي التي أطلق عليها العلماء الطريقة البنيوية (Structural)، وهي التي تعتمد على تغير بنية المخ لزيادة عدد الوصلات بين الخلايا، وهي تحدث على فترة زمنية أطول، فهي تحتاج لأيام وأسابيع حتى تتكون، ولكنها تضيف لمعلوماتك معلومات وقدرات جديدة. وبإضافة هذه الوصلات الجديدة تتباعد الخلايا عن بعضها البعض في المخ، وتتسع المسافات، ويكبر المخ، ومعه تكبر المعلومات.
في السابق كان الاعتقاد أن المخ يتوقف عن النمو بعد أن يبلغ الشخص، وأن الوصلات المختلفة تبقى هي هي كما هي، ولا تتغير، وأن المخ كالوعاء الثابت، كلما وضعت فيه معلومات فقد شغلْتَ منه جزء لا يمكن أن يشغله شيء آخر، ولذا على الإنسان أن ينتبه لما يشغل به عقله حتى يبقى مكان لما هو نافع، واتضح أن هذه المعلومة خاطئة جدا، وأن المخ ليس كالوعاء نهائيا، بل هو جسم حي يكبر ويزداد، وكلما قدمت له المعلومات كلما كبر حجم الوعاء. والعكس بالعكس، ولو أنك لم تستخدم المخ لضمر، وكلما صغر قلّت الوصلات بين الخلايا وبذلك تنخفض المعلومات، فلذا إذا أردت أن تطور من نفسك عليك بأن تملأ مخك لأن الوعاء لن يفيض.
وقد درس العلماء هذه الظاهرة في المخ على مدى أيام، واكشتفوا كيف تنمو أطراف جديدة في جذور الخلية (الدندرايتس)، كلما نتبتت شوكة جديدة، انتظرت في المخ إلى أن يتصل بها طرف آكسوني من خلية أخرى، وحالما تتصل الخلايا من نقاط جديدة تبدأ الإشارات بالانطلاق، وتبدأ المواد الكيميائية بالتحرك، وتبدأ الذاكرة والخبرات والمعلومات بالازدياد، ويبدأ مخك بإنتاج أفكار جديدة وإبداعات جديدة.
هنا لابد أن أذكر أن نمو الأشواك هذه والإشارات أيضا تحتاج لتركيز واهتمام أثناء التعلم، لن تنمو هذه لو أنك لا تبدي اهتماما بما تتعلمه، ولو أنك أيضا كنت مشغول الذهن بأمور أخرى، فمثلا كنت تقرأ كتابا، وفي نفس الوقت أمامك الهاتف النقال وتنقل بينهما اعتقادا من أنك قادر على أداء عدة عمليات في آن واحد فأنصحك أن تترك التعلم لأنه لا فائدة منه، ولن يولد الإشارات المناسبة ولا الأشواك.
نأتي للطريقة الأخيرة لنموا المخ والتعلم، وهي طريقة النيوروجنيسيس (Neurogenesis)، وهي ولادة خلايا جديدة في المخ، إذا كان هناك شيء لم يكن في حسبان العلماء فهو هذه النقطة، فإلى زمن قريب جدا لم يكن العلماء يعتقدون أن الخلايا تنمو من جديد في البالغين، وهذه المغالطة منتشرة بينهم وبين الناس عالميا، فالكثير يعتقد أنه حينما تكبر فإن مخك لا ينتج خلية واحدة أضافية، ولكن بعد سنوات من محاولة العلماء المستجدين لإقناع العلماء القدامى بأن هناك خلايا جديدة تنشأ قبل العلماء بهذا الفهم الجديد، وبعد أن أثبتت التجارب هذه الفكرة مرة تلو الآخرى (بعض العلماء لم تقبل أوراقهم العلمية واستهزئ بهم، وتوقفوا عن البحث في مجال النيوروجينيسس، إلى أن أعاد العلماء طرق وفتح هذا الباب مرة أخرى).
قامت عالمة الأعصاب إليزابيث جولد (Elizabeth Gould) بدراسة مخ الفئران ونوعين من القرود، واكتشفت أن كبار هذه الحيوانات حينما توضع في بيئة نشطة ومتعددة فإنها تتعلم، واكتشفت أن خلايا جذعية جديدة تُنتج في المخ، من المعروف أن الخلايا الجذعية تتشكل لتصبح خلية من أي نوع، وإذا ما ظهرت هذه الخلايا الجذعية في المخ فإنها تتحول إلى خلايا عصبية، ثم تنجرف في المخ إلى أماكن محددة، وتبدأ بتكوين أطرافا متعددة من الديندراتات وآكسونات وتبدأ بالاشتباك مع باقي الخلايا في الشبكة لتتفاعل معها. فتحتفظ هذه الخلايا الجديدة بذاكرة جديدة وأفكار جديدة.
كانت العالمة إليزابيث تعد الخلايا في مخ الفئران في المختبر، وإذا بها تكتشف أن العدد قد ازداد، فاعتقدت أنها أخطأت، لنتذكر أن عد الخلايا ليس بالأمر السهل، وذلك لأن عددها كبير جدا، لنتذكر أيضا أن هذه الخلايا صغيرة جدا، فساورها الشك، وحاولت أن تُخطئ نفسها، ولكنها في النهاية اكتشفت أن الخلايا فعلا تنمو، واليوم العلماء استطاعوا أن يروا ذلك بأم أعينهم باستخدام خلايا مشعة، حيث بإمكانهم أن يروا نمو خلايا جديدة في المخ وبعد ذلك متابعة تحركاتها ونموها.
إذن، هذه هي فرصتك، حاول أن تتعلم أشياء جديدة، ولا تخف من أن يمتلئ الوعاء، فالمخ يكبر وينمو بطرق متعددة، وإن لم تتعلم ستحد من قدراتك العقلية، لا بل إذا كنت تعتقد أنك غير قادر على التعلم فأنت مخطئ، ربما تكونت لديك العادة في أن لا تتعلم، ولا تركز، وهذه أنشأت خلايا ووصلات عاداتية ترفض تعلمك، ولكن لا يعني ذلك أنك لن تستطيع أن تتغلب عليها. بعد معرفتك بهذه المعلومات حاول أن تتعدى قدراتك الحالية.
نمذجة المخ
أدر وجهك إلى اليمين ثم إلى اليسار ثم إلى الأعلى ثم إلى الأسفل، انظر إلى ما في جيبك، وإلى ما في جسمك، حيثما توجه بصرك وبصيرتك ستجد منتجا هائلا أنتجه الإنسان، فالتكنولوجيا المعقدة، والعلوم التي تقف على شفا الخيال العلمي، والفلسفة بعمقها، والرياضيات المعقدة، والفنون الجميلة، والإبداعات التي لا حصر لها كلها أتت من الإنسان، بل كلها أتت من عقل الإنسان، والعقل نتاج المخ الهائل الذي لا يتعدى وزنه 1.5 كيلوجرام.
لماذا ذكرت كل هذه التفاصيل السابقة عن المخ؟ لأنني أريد أن أبين نقطة مهمة، وهي أن العلماء لم يدعوا جانبا من المخ لم يخترقوه، فهم يعرفونه على مستوى العموم من تفاصيل، وكذلك على مستوى الخلايا الصغيرة وبدقة متناهية، فقدروا على أن يصلوا إلى خلية خلية وحصلوا على إشارات منها، وأثّروا عليها بإشارات، وعلموا ما به من مواد كيميائية. والآن هم يقومون بتحويل كل هذه الإشارات المختلفة في المخ إلى قوانين رياضية، حتى تتم نمذجته على الكمبيوتر.
هناك حركة حثيثة مليارية الآن لفهم المخ على مستوى الشبكة الهائلة وبالتالي نمذجتها، علماء من عدة دول من العالم الآن يعملون بنهم بعدة توجهات، حيث بدأوا بالعمل على تحويل المخ البيولوجي إلى مخ مبرمج على الكمبيوتر باستخدام القوانين المحاكية لعمل الخلايا، أحد هذه المشاريع أسسه العالم هنري ماركم بعنوان مشروع المخ الإنساني (The Human Brain Project) وصرفت عليه الدول الأوربية حاولي 1.3 مليار دولار، وقد قام بمحاكات جزء من مخ الفأر، ويطمح أن تتم محاكاة مخ الإنسان في سنة 2032، لربما يكون المشروع طَموحا جدا، ولكن لا يأتي النجاح بعزيمة واهية.
وكذلك قبل فترة وجيزة أعلن الرئيس الأمريكي أوباما عن تخصيص ميزانية قدرها 3 مليار دولار لعمل خريطة متكاملة للمخ على مدى الـ 15 سنة القادمة، وكذلك العديد من الدول الأوربية أنشأت مؤسسات لدعم هذا التوجه، وكلها تعمل ليل نهار من أجل الكشف عن المخ.
لهذا التوجه هدفان، أولهما هو محاولة فهم كيفية عمل الأمراض النفسية في مخ الإنسان، فهناك ما يقارب 600 مرض نفسي مختلف، وكلها ترجع إلى المخ، فبعد أن تتم محاكاة المخ سيتم إمراضه والتلاعب بخلاياه، بحيث يمرض الكمبيوتر، وعندها يستطيع العلماء معرفة كيفية معالجة هذه الأمراض.
والأمر الآخر الذي يحاول العلماء أن يفهموا طريقة عمله هو الوعي والإدراك والمشاعر، فصحيح أن المخ ينتج كل هذه الأمور إلا أنه لا يعلم العلماء كيف تتم هذه العملية بعد، فهناك أدلة واضحة على أن التأثير على خلايا معينة في المخ تنتج وعيا لدى الإنسان، فعلى سبيل المثال العلماء يستطيعون أن يصيبوا خلية أو مجموعة خلايا في المخ فيحس الشخص وكأن روحه انتزعت منه وخرجت من جسده، وقد تحدثت عن نزع الروح في حلقة الأحلام وبينت أنها ليست إلا حلما، واليوم العلماء يستطيعون بصعقة إلكترونية صغيرة جدا في منطقة محددة في خلايا المخ أن يخلقوا لديك هذا الشعور، بهذه الصعقة ستحس أن روحك نزعت من جسد.
يتوقع العلماء أن يصبح الكمبيوتر واعيا بعد أن تتم مماثلة المخ بالكمبيوتر، فكل الدلائل تشير إلى أن المخ هو المنتج للوعي، ولا أدري حنيها كيف سيعاملوه، فهل سيتراجع العلماء من إصابته بالأمراض العقلية أو سيعطوه حقوقا لأنه كائن واعي؟
ماذا عن الروح؟
ماذا عن الروح؟ الكثير يسأل هذا السؤال، ويتضايق من أن هذه القطعة البيولوجية كما وصفتها وكأنها حولت الإنسان إلى جسم مادي لا روح فيه، إذا كانت جميع الأفكار والمشاعر ليست إلا إشارات تنطلق من الخلايا في تفاعلات مليارية، وهي التي تنتج كل شيء فأين إذن الروح؟ نحن نعرف عن الروح من المعلومات الدينية التي تلقيناها، سواء أكنا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو أي ديانة أخرى، والروح فكرتها ترجع أيضا إلى أيام سقراط وافلاطون وأرسطو، وحتى إلى ما قبل ذلك. فهل نُلغي الروح في هذه الحالة؟
هل الروح ليست إلا كلمة لا معنى لها في ظل كل وصل إليه العلم؟ هناك مصطلح دارج عندنا، وربما أنت سمعت فيه من قبل أنه حينما يطبخ شخصا طبخة مميزة ولذيذة يقال أن نَفَسْ الطباخ موجود في الطبخة، قد تقول إحداهن: “أم جاسم حينما تدخل إلى المطبخ فإنها تستطيع أن تحضر أكلة طيبة المذاق وكلما أخذت الوصفة منها وحاولت أن أصنع الطبخة بنفس الطعم اللذيذ لم أستطع، نفسها موجود في الأكل، ولذا لا أستطيع تكرار ما فعلت،” هذا ما أسمعه بين الحين والآخر، نتساءل، هل يعني ذلك أنني لو دخلت إلى نفس المطبخ، واستخدمت نفس الأدوات، ونفس البهارات ونفس الخضراوات واللحوم والزيوت وتتبعت الطبخة خطوة بخطوة لن تخرج مثلما خرجت طبخة أم جاسم اللذيذة؟ الكثير من الناس يعتقد أنه لا يستطيع أن يخرج بنفس الطبخة، نتساءل هنا هل النَفَسْ الموجود في طبخة أم جاسم هي حقيقية؟ هل الطبخ أصبحت فيه روح؟ هل يعقل ذلك؟ هذا التعبير يستخدم حينما لا تكون جميع معلومات مستلزمات الطبخ متوفرة لدينا، ولذا نطلق على طبخ أم جاسم الرائع بأنه فيه نفس، أو فيه روح.
وقد يكون أن كلمة “روح” تطلق على فعل بدلا من جسم، فمثلا، يتساءل الفيلسوف شيلي كيجن، ما هي الابتسامة، أين هي في الوجه؟ ربما تقول إنها الشفتين، ولكن الشفتين ليستا ابتسامة، أو قد تقول أن الابتسامة هي الخدين أو الأضراس، ولكنها ليست كذلك، لن تستطيع أن تحدد عضوا معينا في الجسم لتسميته بابتسامة، الابتسامة هي فعل يتضمن حركة لمجمومة من العضلات التي تحرك الشفتين لتتسعان في الوجه بحيث تكون الشفتين مقوستين إلى الأعلى مع ارتفاع الخد وتجعد الجلد على أطراف العين، ربما لن يكون هذا هو التعريف الدقيق، ولكن التعريف يشتمل على فعل وليس على جسم.
إذن ليس بالضرورة أن تكون الروح هي جسم شفاف كما يتصوره البعض أو جسم يتلبس الإنسان، وهو الذي يتحكم بأفكاره، إنما قد تكون الروح عبارة عن شخصية الإنسان على مدى سنوات عمره كلها، أو من الممكن أن تكون مجمل أرائه وذاكرته أو معلوماته المخزنة في المخ. لكن حتى هذا التصور لا يهمني شخصيا.
حينما يسألني أحدهم السؤال: ماذا عن الروح؟ أرد عليه بسؤال آخر، وأرجو أن تنتبه، وحاول أن تجيب عليه بنفسك، “ما هي الروح؟” إلى يومنا هذا لا أعرف أحدا واجهته بهذا السؤال وأجاب عليه، طبعا كوني أنا مسلم، فهذا السؤال عادة ما أوجهه لأصدقائي من حولي وهم مسلمين في الغالب، لا أظن أنني سأجد نفس هذه الإجابة السلبية عند الفلاسفة الغربيين سواء المسيحيين أو الغير مسيحيين. لماذا لا نعرف أو لا نحاول أن نعرف الإجابة على هذا السؤال بتفاصيل عصرية؟ لأن القرآن الكريم بكل وضوح يقول: “ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي”، وهذه توقف أي تصور أو أي رأي من محاولة حل هذا اللغز. ولو أنني على المتسوى الشخصي لا أعرف لماذا لا يحاول أحد، فلم أجد في الآية ما يحذر من ذلك، ولكن على الأقل هذا هو التصور الحالي، وهو أَنْ لا تَصَوُّر للروح، وأن الروح لا يفهمها إلا الله عز وجل.
فإذا كانت هذه الإجابة على السؤال، وهي أن الروح لا يعلمها إلا الله، فإذن لماذا يقال أن للروح دخل في المخ أو في طريقة التفكير أو في النفس أو ما أشبه؟ إذا لم يكن أحد يعرف ما هي الروح فكيف بهم يعرفون طريقة عملها في الإنسان؟
أشعر بالراحة النفسية من هذه الآية لأنها ترد على كل شخص يحاول أن يقحم الروح في المخ، فإذا لم نكن نعرف ما هي الروح فلنوكلها إلى ربها ولنعمل بما نعرف، بل أذهب إلى أبعد من ذلك، وأعتقد أن مثل هذه الآية يجب أن تخلصنا من تحجر التفكير حين نحاول فهم الإنسان من ناحية المخ، وكأنما أراد الله أن يزيح من أمامنا التفكير في الروح، وأراد بنا الانطلاق في العلم بلا إعاقة. ولذا إذا أردت أن تفهم كيفية عمل المخ وتأثيره على البشر، فدعنا من الروح، ولننطق إلى المخ، وهذه نظرة في رأيي إيجابية للآية وليست سلبية.
لفترة طويلة كنت أفهم الحديث الشريف الذي يقول: “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه” بطريقة خاطئة، فكنت أتصور أن المقصود أن المرء عليه أن يعرف قدره ويتوقف عند ذلك القدر، “هذه هي معلوماتك، هذه هي حدودك، توقف عندها،” ربما أصبت بالإحباط في الكثير من الأحيان لتوقفي عن المحاولة لاعتقادي أنني وصلت إلى حدودي، وستلاحظ أننا حينما نريد أن نوقف شخص من المحاولة التي قد تفشل، سنقول له: “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه”، هنا نحن نقول للشخص توقف نتوقع أنك غير قادر.
وبعد تفكير في هذا الحديث من الناحية الإيجابية اكتشفت أنني في الحقيقة لا أعرف قدر نفسي، فكيف لي أن أعرف قدري إن لم أحاول مرة تلو الأخرى، كيف أعرف أنني لا أستطيع؟ أليس من المفروض أن أجرب، ثم إن لم أجرب كيف لي أن أتعلم؟ هذه التسؤلات قلبت نظرتي للمضمون إلى الطرف الآخر من المنقلة، ولم تعد المعاني تدعوني للتوقف، بل أصبحت بالنسبة لي معان تدعو لاكتشاف ذاتي وللازدياد وللتطور، وعلى الأقل هذا ما نفهمه من قدرة المخ على التكيف والتطور الازدياد، ولن أستطيع أن أعرف قدر نفسي إلا بدفعها لاكتشاف حدودها، وإذا ما وصلت، عندها ربما سأقف، ولكن حتى ذلك الحين أتوقع أن أموت قبل أن أعترف بحدودي.
هذه هي نظرتي للآية التي تتحدث عن الروح، أنظر لها بإيجابية، فهي تطلب مني التوقف عن التفكير في الروح، والانطلاق بما هو متوفر، وهذا ما يقوم به العلماء، ولذا الاكتشافات تتولى واحدة بعد الأخرى بالمخ بمعزل عن التفكير بالروح، نعم سيبقى هناك تساؤل عن الوعي وعن الإدراك المشاعر والروح، وهذا التساؤل لا يعرقل المسير نحو الفهم، بل يدفع له، وسيصنع العلماء ذلك الكمبيوتر الذي يعمل كالمخ، وسيقول: “أنا واعي، أنا مدرك، أنا أشعر، أنا حي، ولدي روح”.
عندها ستنقلب الموازين، فالسرعة التي يحسب الكمبيوتر بها حساباته، وهي تتعدى إمكانيات المخ البشري ستُكوّن لديه القدرة على الوعي والإدراك بسرعة هائلة، وستُكوّن قدرته على الإبداع التي تتفوق على الإبداع البشري، سينتج أفكارا لا نستطيع أن نتخيل معانيها، وكلما قمنا بتعليم الكمبيوتر معلومات جديدة كلما كبرت خلاياه العصبية الإلكترونية، والنمو هناك لا يتطلب أسبوع أو أسبوعين أو ما أشبه، بل أجزاء من الثانية، وما تتعلمه أنت في أيام يتعلمه الكمبيوتر في لحظات، شيئا فشيئا سيحتوي ذلك المخ الإلكتروني على معلومات هائلة، منها يستطيع أن يعرف ما لا يعرفه الإنسان ولا يتخيله، وعندها يتغلب الكمبيوتر على الإنسان ليس فقط على المستوى الفردي، بل على المستوى الجمعي، على عقول البشر كلهم فوق بعض منذ بداية الخليقة إلى يومنا هذا.
نقاط نهائية قبل الانتهاء
1. هناك العديد من التجارب التي لم أذكرها لتعدي الحلقة المدة المعقولة، ومنها تجربة معرفة العلماء بقرارك قبل أن تعي به أنت، فمثلا تريد أن تختار بين أن تأكل تفاحة أو برتقالة، أو أن تمشي أو تقف، أنت عادة ما تعي بالفكرة قبل أن تقرر، العلماء يستطيعون اليوم وبأقل من جزء من الثانية معرفة ما ستفكر به قبل أن تعلم بالفكرة بنفسك أو قبل أن تعي بالفكرة بنفسك، وهذه التجارب وتجارب أخرى مثل تجربة نزع الروح عن طريق صدمة كهربائية صغيرة لخلايا المخ، سأتحدث عنها بتفصيل أكبر في حلقة قادمة عن الوعي والإدراك، وهناك تجارب تكّون لدى الشخص وعي غير حقيقي مثل أن يصعق المخ ليجعل الشخص يحس وكأنه تكلم، ولكنه لا يدري ماذا قال. كلما تقدم فهم المخ كلما استطاع العلماء الدخول إلى الأفكار، ثم سأنتقل لحرية الإرادة، هل لديك حرية إرادة أم لا؟ فمثلا هناك تجارب تبين أن بصعقة كهربائية على خلايا من المخ تجعل لدى الشخص الرغبة في القيام بعمل معين.
2. سأتحدث في حلقة أيضا عما يحدث الآن من تحفيز المخ ليصبح الشخص أكثر ذكاء وفهما وإبداعا، هناك العديد من المؤسسات التي تصنع أجهزة توضع على المخ وترفع من قدرة الشخص أو تهدئ الأفكار التشويشية في ذهنه ليركز الشخص على التعلم، هذه تندرج تحت عنوان رفع أو زيادة المعرفة (Augmented Cognition)، وهناك أيضا محاولات لتقوية القدرة الذهنية من خلال الأدوية وما إلى ذلك.
3. كل ما أوردته هنا إنما هو نقطة في بحر المخ، المعلومات أكبر من هذا بكثير، والتجارب غير قابلة للحصر، ولكن لا يعني ذلك أن فهم الوعي والإدراك والمشاعر اكتمل، لا يزال العلماء لا يعرفون كيف يتحول عمل الخلايا العصبية من إشارات مليارية إلى وعي، نعم هناك الكثير من الدلائل أن الوعي مرتبط ارتباط وثيق بها من خلال التجارب، ولكن العلم لم ينتهي بعد من فهم الكيفية، وهي لا تزال في قيد البحث، والاعتقاد أنه بمجرد الانتهاء من النمذجة الصحيحة سيصبح الكمبيوتر واعيا، فكما أن ذرة الأكسجين لوحدها ليست ماء، ولا الهدروجين لوحدها ماء، ولكن واحدة من الأولى واثنتان من الثانية هو الماء، يعتقد البعض أن بدمج كل هذه الخلايا المستقلة التي ليس لها وعي في شبكة كثيفة سيتكون الوعي. وهناك أراء مضادة أيضا من علماء آخرين ممن يعتقدون أن مثل هذه العقول الإلكتروني يجب أن يتصل بها جسم يماثل جسم الإنسان بأعضائه ومستشعراته، وغير ذلك.
4. التطور الذي يحدث الآن في فهم ونمذجة المخ هو هائل، والمال بدأ ضخه في هذا القطاع الجديد، أنت اليوم تعيش في حقبة جديدة، حقبة المخ، التوقع هو أنه خلال 15 سنة إلى الـ 100 سنة القادمة يتم تطوير مخ إلكتروني يقدم ذكاء لا يمكن وصفه، وسيغير من مجرى الإنسانية إلى الأبد. لذا فأنصح كل من لديه اهتمام في الموضوع أن يتحرك ناحيته، وأن تعمل على فهم المخ، وعلى نمذجته، العالم المتقدم يحتض الفكرة بقوة، لا تدع الفرص تفوتك. أنا حاليا أدرس في كورسين علميين عن المخ بتفاصيل دقيقة جدا في موقع الكورسيرا، الكورس الأول بعنوان “السينابسات، والخلايا العصبية، والأمخخ” (Synapsis, Neurons and Brains)، وكذلك “علم الخلايا العصبية الحسابية” (Computational Neuroscience) حتى أفهم ما يحدث في هذا العالم، ومن الواضح أنه عالم متقدم ويحتوي على تفاصيل مذهلة.
المصادر
1. كورس في موقع الكورسيرا تحت عنوان “سينابسات، خلايا عصبية، والأدمغة” للدكتور إدان سيجيف.
2. كورس في موقع الكورسيرا تحت عنوان “علم خلايا الأعصاب الحسابي” للدكتور راجيش واو، وآدريان فيرهول.
3. كتاب “المخ الذي يغير نفسه” دويتج نورمان (The Brain that Changes Itself).
4. سلسلة من الحلقات في البودكاست “علم المخ” (Brain Science Podcast).
5. كتاب “الجسم لديه عقل من تلقاء نفسه: كيف تساعد خرائط الجسد في المخ لتفعل كل شيء (تقريبا) بشكل أفضل” ساندرا بليكسلي وماثيو بليكسلي (The Body Has a Mind of Its Own: How Body Maps in Your Brain Help You Do (Almost) Everything better).
هناك مصادر أخرى في المقالة على شكل روابط، ومصادر أخرى لم تسنح لي الفرصة في ذكرها.
حلقة رائعة جداً مضموناً و موضوعاً , و أشكرك دكتور محمد على هذا المجهود الكبير لإنتاج هذي الحلقة الرائعة , لكن عندي سؤال … تعلمنا أن العقل يستطيع إعادة تأهيل نفسه , فهل يمكنه تأهيل نفسه بأن لا ينام أو يغفو الشخص ( أي يتعود الشخص على أن لاينام فيتم إعادة تأهيل العقل على ذلك ) إعتباراً من أن العقل هو الذي ينام لأنه يغيب (الوعي) عند الإنسان ؟
أنا طرحت هذا السؤال لأن له فائدة كبيرة حيث أن الإنسان ينام أكثر من ثلث عمره .
هناك أشياء لا يمكن لك أن تغيرها في مخك وهي غريزية، فمثلا لا يمكن أن توقف رئتيك من التنفس بالتمرين (طبعا إلا إذا أنهيت حياتك)، لا يوجد تمرين عقلي بإمكانه تغيير ذلك، بعض الأشياء الغريزية لا يمكن الوصول لها بالتمرين بلا شك، أما من ناحية النوم، فبحسب معلوماتي أن هناك أدوية يجربها الجيش الأمريكي تجعل الجندي قادرا على البقاء يقضا لأيام، ولكن البقاء متيقضا بلا أي تدخل في المخ دوائيا يؤدي إلى الموت بعد عدة أيام، وأتذكر أن هناك من الناس من يصابون بأرق شديد، وبعد أيام يموتون إذا لم يناموا، وهناك لقطة يوتيوب على ذلك، لا أتذكر أني رأيتها.
حلقة ممتازة دكتور …..إنتظرناها طويلا . أشكرك على التعقيب على رأيي و لكن بخصوص السبب الديني ‘ ربما غير مقنع ‘ نعم ربما لم تفهمني جيدا . أنا قصدت أن الله سسبحانه و تعالى قد خلق الإنسان و حسن صورته و هيأ له جميع التدابير في الحياة فحتما و هذه حقيقة مثبتة أنه لا يغلب الإنسان أي كائن حي آخر نباتا كان أو حيوان لذا إفترضت أنه حتى الآلة التي برمجها بنفسه لا تستطيع التغلب عليه فالإنسان مكرم و في جميع النواحي . أشكرك ثانية دكتور على التعقيب و على الحلقة .
شكرا للمشاركة بصوتك، وأنا سعيد برأيك.
شكرًا على الحلقة الأكثر من رائعة لكن ماذا عن مبرهنة كورت كودل بأن دماغ الانسان يتكون من شيء لا يمكن تمثيله بخوارزمية والتي استدل بها عالم الرياضيات روجر بنروز باستحالة صناعة آلة تماثل الدماغ ؟
في حقيقة الامر هذا الموضوع كنا نناقشه انا واصدقائي واثار اهتمامي . لكن الشيء الذي لا يتقبله عقلي هو كيف لشيء اقوم ببرمجته وإن كانت معلوماته كبيرة وواسعة جدًا إلا انها تبقى ذات نهاية ونهاية هذا الذكاء الآلي سوف ينتهي بمجرد إيجاد ثغرة بسيطة حسب الوقت او عبر الزمن ، مثل الحماية التي نقوم بها لحواسبنا.وأنا على يقيمن ان كباسبارو أو شخص اخر قد يكون لم يولد بعد باستطاعته التفوق يوماً ما على الآة في الشطرنج ما دامت احتمالاته متناهية وتفكير الانسان لا متناهي………..