ربما لعبت لعبة الآنجري بيردز (Angry Birds) الشهيرة. تلاحظ أنك حينما تقذف بالطائر باستخدام المقلاع على حصن الخنازير فإنه يطير على شكل مقذوفة بمسار فيزيائي يماثل ذلك الذي تراه حينما ترمي بحجر بعيدا عنك (للذين لا يعرفون الآنجري بيردز – ولو أنني اجد أن ذلك مستحيلا، وخصوصا أن للعبة هذه انتشار لم يسبق له مثيل، هذه اللعبة متوفرة على معظم الهواتف النقالة وأجهزة الألعاب المختلفة، وفكرة اللعبة تتلخص في أن خنازير سرقت بيض لطيور وهربت فتحصنت في قلاع من خشب وإسمنت وما شابه، غضبت الطيور مما فعله الخنازير فقرروا الانتقام، يقوم اللاعب بقذف الطيور على حصون الخنازير عن طريق مقلاع، ويحتاج لأن يعيّر الاتجاه حتى يصيب بالطائر المكان الصحيح فتسقط الجدران على الخنازير ويحصل الطيور على انتقامهم). نعود للفكرة، أنت حينما تلعب هذه اللعبة تلاحظ أنها تقوم على قواعد فيزيائية، فانطلاق الطير من المقلاع، وطيرانه، واصطدامه في الجدارن، وسقوط الجدران وتصادم الأشياء مع بعضها شيء مألوف، أي أن هذه الأمور ليست بغريبة عليك حيث أنك تتوقع لو أن الأشياء في الطبيعة تساقطت لعملت بنفس الإجراءات الفيزيائية الطبيعية، فالأشياء تسقط على بعضها بفعل الجاذبية، ولكل فعل رد فعل يعاكسه في الاتجاه ويساويه في القوة، وهكذا، أنت لا تتوقع أنه حينما تلعب اللعبة ويصطدم الطير في جدار أن يطير السقف إلى الأعلى، لماذا لأنه ببساطة لا ترى ذلك في الطبيعة، ولو حدث ذلك في اللعبة ستجد نفسك في حيرة – إلى أن تقبل أن للعبة قواعدا تختلف عما تعرفه، وبناءا عليه تعوّد نفسك على القواعد الجديدة.
طيب، كيف تمكن المبرمجين من أن يماثلوا الطبيعة في هذه اللعبة؟ لا بل في الكثير من الألعاب والأفلام الثلاثية الأبعاد يتم تمثيل الطبيعة، فكيف تمكنوا من ذلك؟ بكل بساطة: المبرمجين استطاعوا مماثلة الطبيعة باستخدام قوانين رياضية تصف الطبيعة بشكل دقيق جدا، فالمقذوفات لها قوانين تتابع حركتها بشكل دقيق (ولذلك تستخدم هذه القوانين في الدبابات لإطلاق القذائف، مثلا)، وتساقط الجدران لها قوانين رياضية، وتصادمها أيضا، وهكذا الكثير مما تراه على الشاشة الكميبوتر والآجهزة النقالة من ألعاب يعتمد بالدرجة الأولى على القوانين الرياضية، هذه القوانين مستقاة من الطبيعة، الطبيعة هكذا تعمل، وهي تعمل بطريقة يمكننا نصفها بقوانين رياضية دقيقة إلى حد كبير جدا، بهذه القوانين نستطيع أن نكون قوانين رياضية أخرى، ومنها نكتشف أنها هي أيضا تنطبق على الطبيعة.
يتساءل البعض: لماذا تتطابق الرياضيات مع الطبيعة؟ كيف لها أن تفسر كيف تعمل الأشياء؟ ها هي الرياضيات تستخدم في جميع المجالات، من الفيزياء والهندسة والفلك والطب والكيمياء والأحياء وعلم النفس والفن، هل الرياضيات مخترعة أم أنها مكتشفة؟ هل الرياضيات صفة للطبيعة أو الكون أم أنها هي الطبيعة أو الكون؟ سأبدأ الحلقة هذه برحلة في عمق التاريخ البشري من حيث بدأ تسجيل العد – على حد علم علماء الأحافير، وأنتهي إلى كون هو في بنيته الأصولية الرياضيات المجردة.
بالتعاون مع شبكة أبو نواف أقدم لكم هذه الحلقة من السايوير بودكاست شبكة أبو نواف تقدم مواد ترفيهية وأخرى هادفة، ولاهتمامهم بتقديم مواد مفيدة وبناءة ترسل لكم السايوير بودكاست من ضمن باقتها المنوعة، ليصل البودكاست لمسامع أكبر عدد من أفراد العالم العربي.
الإنسان الأول يعد
أقدم اكتشاف اكتشفه علماء الحفريات والذي يدعم فكرة عد الإنسان هي قطعة عظم الشظية من رِجل قرد البابون، ذلك العظم الموجود في الساق، على ذلك العظم – والذي طوله 7.7 سم – خُدش 29 خطا واضحا، واستدل العلماء على أن هذه الخطوط تدل على أن الإنسان الأول علم بهذه العلامات كدليل لعدد الأيام، واستخدمت العظمة كرزنامة كما نحن اليوم نستخدم الرزنامات لمعرفة تاريخ اليوم أو أي من أيام الأسبوع اليوم، عمر هذه العظمة -عظمة الليبموبو (Lebombo) – هو 35,000 سنة، ووجدت في كهف بوردر في جبال ليمومبو بين جنوب أفريقيا وسوازيلاند، ويذكر كيث ديفلين (Keith Devlin) صاحب الكتاب “رجل الأرقام: ثورة فيبوناتشي الحسابية” (The Man of Numbers: Fibonacci’s Arithmetic Revolution) أن هذه الطريقة كانت أيضا تستخدمها النساء في القديم لحساب الدورة الشهرية، حيث كانت النساء يخدشن العظام أو الصخور لعد الأيام.
هناك أيضا عظام إشانجو (Ishango)، والتي أُلصق على نهايتها قطعة من كريستال الكوارتز (غريب)، أيضا خط عليها عدد من الخطوط، ويعتقد أن الهدف من هذه الخطوط هو حساب ستة أشهر قمرية من السنة، خطت تلك الخطوط على على شكل حزم بجانب بعضها البعض، وفيها مضاعفات لأعداد، وفيها الأعداد الفردية، (9، 11، 13، 17، 19, 21)، وفيها أيضا الأعداد الأولية (11، 13، 17، 19) وباستخدام هذه الأرقام يعتقد أنه كان بإمكان البشر في ذلك الوقت أن يقوموا بعمليات حسابية بسيطة، بما في ذلك حساب الأشهر القمرية.
بعد ذلك وقبل حوالي 8000 سنة في سومر، كان الناس يعدون الخراف باستخدام قطع طينية، كل منها رسم عليه الرمز +، فعند حساب عدد من الخراف توضع هذه القطع من الطين في حاوية كروية للحفاظ على عد الخراف، فتخيل على سبيل المثال لو أراد الراعي أن يعيد أغنامه من الحظيرة، كيف سيعرف أن واحدة أو أكثر من هذه الخراف لم تنقص؟ ربما تقول: “بكل بساطة يعد كم هي، ثم يحفظ الرقم أو يسجله على ورقة، أو على جلد أو حتى صخرة، ثم يعيد عدها مرة أخرى حينما يريد إرجاعها إلى الحظيرة، فإن اختلف الرقمين علم بالنقصان” الأمر ليس بهذه البساطة، فالرموز التي نستخدمها اليوم (0، 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9) لم تكن موجودة في تلك الأيام، فلا يمكن للراعي أن يكتب الرقم 45 إذا ما كان لديه 45 خروف. لذلك فهو يستخدم القطع الطينية للعد، فحينما يخرج الخراف من الحظيرة يخرج عددا من القطع يساوي الخراف، وحينما يعيدها يعيد في الحاوية القطع من الطين التي علم عليها بعلامة +، فلو أدخل الخراف كلها واكتشف أن قطعة من الطين بقيت في يده، فقد يكون الذئب قد انقض على واحدة من خرافه، ولتسهيل العد، بدلا من استخدام 45 قطعة لعد 45 خروف، كانت هناك قطع ترمز للعشرة، فتستخدم 4 قطع من التي ترمز للـ 10، وخمسة من التي ترمز للـ 1.
نقطة جميلة هنا لابد من ذكرها: لو أن شيئا مهما قد تم عده باستخدام القطع الطينية في ذلك الوقت، ستوضع هذه في حاوية طينية كروية ثم تغلق هذه الحاوية ويرسم عليها رموز معينة تدل على عدد القطع الموجودة بداخل الإناء وتحمى على النار لتجف، إذا ما حدث وأن شك أحدهم بالعدد بإمكانهم كسر هذه الحاوية للتأكد من عدد هذه القطع، وبذلك يصبح هناك نوع من الضمان، ولكن لاحظ الفكرة الجملية هنا، وهو أن هذه الحاويات في معظما لم تكسر، لماذا؟ لأنه وبكل بساطة، الرموز التي رسمت على الحاوية كانت تدل على الرقم الذي بالداخل، فلا حاجة لهم لكسر الحاوية والعد، فأصبحت هذه الرموز تمثل الأعداد، كما لو أنك اليوم ترسم الشكل 2، وتقول أن هذا الشكل يرمز لشيئين أي كان جنسهما.
تستوقفني هذه الصور القديمة من العد لمقارنتها مع ما نقوم به نحن اليوم من حسابات تفوق الوصف، سواء من خلال الرياضيات المعقدة المجردة إلى العد الهائل الذي نقوم به باستخدام الكمبيوتر، يا له من فارق شاسع بين تلك الأيام وبين أيامنا، وإذا ما رميت ببصيرتك إلى المستقبل القريب (لتعجل التطورات) لأحسست بأن ما سيأتي سيكون أكبر بكثير مما نعرفه الآن بكثير.
الحيوان والعد
الإنسان الأول كان يعد بشكل بدائي جدا، وهو يفتقر إلى أبسط نظم العد الحديثة، ولكن هل يتميز الإنسان بالعد عن باقي المخلوقات؟ أم أن المخلوقات الأخرى أيضا لديها القدرة على العد وإن لم تكن متقدمة بنفس القدر؟ الكثير من الحيوانات لديها القدرة على العد، ولكنها تتفاوت في قدراتها، ولكن للعد أهمية كبرى في حياة الحيوان، سواء أكان ذلك للطعام أو للدفاع، ويمكن أيضا بقليل من التدريب أن تُطوَّر قدرة بعض الحيوانات على العد.
واحدة من التجارب التي أجريت على قرود الريسوس لاختبار قدرتهم على العد هي كالتالي، توضع أمام قرد قطعة من الباذنجان، ثم تنزل ستارة صغيرة أمام الباذنجان لتغطيته عن نظر القرد، بعد ذلك يأتي المُختبِر بقطة أخرى من الباذنجان، ويضعها خلف الستارة بمرأى من القرد، حينما يرى القرد هذه العملية يتوقع أن لو ترفع الستارة أن يجد حبيتن من الباذنجان، أليس كذلك؟ بالطبع حينما يزال الستار ينظر القرد إلى القطعتين لمدة ثانية واحدة، أي أنه كان يتوقع النتيجة 1 + 1 = 2، فلا يستغرق طويلا للنظر إلى أمر طبيعي.
بعد ذلك يقوم المختبر بنفس الحركة، فيضع باذنجانة ثم يغطيها، ثم يضع باذنجانة أخرى بمرأى من القرد خلف الستارة، ولكن هنا يقوم بخدعة، حيث أنه المُختبر يقوم بإضافة باذنجانة أخرى بطريقة خفية لا يلاحظها القرد، ليصبح العدد 3 باذنجانات، هذه المرة القرد لم يرى الإضافة تحدث أمامه، ثم ترفع الستارة، القرد هنا يتوقع أن يكون عدد الباذنجان 2، ولكنه يكتشف أن عددها 3 باذنجانات، كيف؟ بسبب هذا التناقض الحسابي، يبقى القرد مراقبا للباذنجان لمدة 3 أو 4 ثوان أي لمدة أطول بكثير من الحالة التي يكون فيها الحساب صحيحا.
هذه التجربة أقيمت على الأطفال الرضع أيضا، وبينت التجارب أنهم لديهم نفس الإحساس حينما تحدث نفس الخدعة، حيث أن لديهم بعض التوقعات الحسابية التي تجعلهم يتفاجؤون بنقصان أو زيادة العدد. أقامت هذه التجربة كارين وين (Karen Wynn) العالمة في علم النفس التنموي من جامعة ييل (Yale Univerisy)، هذه التجارب بينت أن الأطفال لديهم القدرة على الجمع والطرح على أعداد بسيطة.
وكذلك تجربة أخرى على القرود تبين أنهم حنيما يقدم لهم طبقان من الفاكهة، وفي واحد من الطبيقين عدد أكبر من الفاكهة فإن القرد يختار الأكثر، ولكن التمميز بين العددين يقل كلما كبر العدد، أي أن القرد يستطيع أن يميز بين طبقين يحتوي على ثلاث تفاحات في مقابل تفاحتين (أو ثلاث مقابل واحدة)، ولكن لا يتسطيع القرد أن يميز بين 4 و 5 تفاحات، ولكنه يستطيع أن يميز 5 في مقابل 3 تفاحات، لماذا يحتاج القرد لعرفة الأرقام؟ لسبب بسيط، وهو لإطعام ليغطي حاجته من الطعام، فهو يحتاج للأكثر. كذلك الفئران والحمام والطير الروبن وصغار الدجاج وحتى النمل لهم القدرة على العد كما بينت التجارب، أضف لذلك أنه بعد تدريب بعضها على العد تتحسن قدرتها بشكل ملحوظ.
الأطفال والحيوانات ربما تتشابهون في بعض أساليب العد البدائية، والتي تعتبر فطرية، فلا حاجة لأن يتم تمثيل الأرقام بعلامات ذهنية معينة، بل نحن جميعا نعدها بطريقة مباشرة بلا أدنى تفكير، جرب هذه التجربة مع أحد أصدقائك حتى تعرف أن هذا النوع من العد الأتوماتيكي موجود لديه، امسك بروقة – ومن غير أن تُري صديقك ما ترسم عليها – ارسم عدد من النقاط (بين 1 و6) وقبل أن تري صديقك الورقة أخبره أنه سيرى نقاطا على الورقة، وأن المطلوب منه أن يخبرك بعدد النقاط من غير أي يعدها (أي من غير أن ينظر لها واحدة واحدة، ويعدها واحدة واحدة، بل بنظرة خاطفة جماعية لكل النقاط يخبرك بعددها)، ثم أره الورقة للحظة بسيطة وأخفها عنه، واسأله عن عدد النقاط، ستكتشف أنه سيخبرك عن عددها من غير العد، هذه صفة فطرية في الإنسان.
نحن والحيوانات نتشابه في هذه الخاصية، ولكن ما إن يكبر الطفل حتى يتفوق على الحيوان ويتعداه بمراحل ومراحل، حيث لا يمكن للحيوان العد الرمزي ولا يمكن للحيوان أن يجمع الرموز لتكوين الأرقام الكبيرة، ولا يمكن له أن يجمع أو يطرح أو يضرب أو يقسم أو يجرد الأرقام، الفروقات تتضح حينما ترى ما توصل إليه الإنسان بسبب قدرته على العد من نتاجات علمية وهندسية وعمرانية هائلة تقزم مجموع كل ما يقوم به الحيوان (إن صحت المقارنة، أحس بالخجل لأنني أقارن بين الإثنين، حيث لا وجه للمقارنة).
الهند، العالم الإسلامي، أوربا
ظهرت الرموز التي ترمز إلى الأعداد العشرة والتي نستخدمها اليوم بداية في الهند بحوالي سنة 700 م، بما في ذلك الصفر (أنا أعرف أن هناك معلومات عامة نتناقلها في ما بيينا أن العرب أو المسلمين هم مخترعي الصفر، ولكني من خلال قراءاتي لم أجد أحدا من المؤرخين يقول بهذا الشي)، لماذا استخدم العد العشري (0-9) بدلا من أي عد آخر (كمثال العد الثماني أو الثلاثي أو الثنائي أو السادس عشري أو ما أشبه) قد يعود السبب في ذلك إلى عدد الأصابع العشر في اليد، وخصوصا أن اليد تستخدم للحساب، فرُمِز لعشرة أعداد فقط (الكمبيوتر اليوم يستخدم العد الثائي – Binary – أي أنه يستخدم العد باستخدام الصفر والواحد في كل عملياته الرياضية في الداخل).
ماذا فعل الهنود بحيث طوروا من الحساب؟ لقد قاموا بعمليتين مهمتين.
1. جعلوا موقع الرمز في العدد له أهميته، يعني أنك حنيما تكتب الرقم 345، فأنت بذلك تعني أن الثلاثة التي هي في الجانب الأيسر تعني 300، والأربعة في الوسط تعني 40 والخمسة على أنها 5، قد يتبادر إلى ذهنك أن ذلك بديهي، فما هو البديل لذلك؟ بأي طريقة يمكن لك أن تكتب الأرقام من غير الاهتمام بمواقع الرموز ومن غير أن تحصل لخبطة؟ تسطيع أن تفعل ذلك باستخدام الأرقام الرومانية، فخذ على سبيل المثال الرقم III وهو 3، في هذه الطريقة لا يهمنا في أي موقع كانت كل من الرموز I، من الممكن الحصول على النتيجة عن طريق جمع الرموز I – والتي تعبر عن الواحد – على بعضها فتعطي النتيجة 3.
2. جعلوا الصفر ينوب عن رقم، ماذا يعني ذلك؟ أولا، وقبل كل شيء، الأرقام الرومانية لم تحتوي على الصفر، حينما تريد أن كتب العشرة فأنت تكتب بدلا من ذلك الرمز X، وبالنسبة للمئة تكتب C، ثانيا، والأهم هو وضع الصفر من ضمن الأرقام، في السابق حينما كانوا يريدون كتابة الرقم 207، كانوا يكتبونه على شكل 7 2، أي الرقم 2 يليه فراغ ثم الرقم 7، ليعبر الفراغ عن الصفر، هذه بحد ذاتها مصيبة، تخيل لو أن صديقا اقترض منك 2001 دينارا، وكتبت الرقم على شكل 1 2، يأتي صديقك في المستقبل ويقول لك، تفضل (21)، ترافعت عند القاضي، وأردت أنت تبين له أنك أقرضته 2001 دينار، كيف ستقوم بذلك؟ الأسوء من ذلك أن العمليات الحسابية مثل الجمع والطرح وغيرها كانت صعبة لعدم وجود الصفر كتعبير عن رقم حقيقي.
والذي أسس لهذه الفكرة كان الفلكي الرياضي براهماجوبتا (Brahmagupta)، حيث كتب كتابا كبيرا من 25 فصل وهو في سن الثلاثين عاما، وأسماه بـ “افتتاح الكون” أو حسب بعض المواقع “المذهب الصحيح للبراهما”، كان ذلك في سنة 628م، وفيه أسس لفكرة الصفر، وأسس أيضا لفكرة أنه حينما تطرح الرقم من نفسه فإنك تحصل على الصفر. ووضع بعض القواعد مثل:
– حينما تجمع الصفر مع أو تنقص الصفر من رقم فإن الرقم لا يتغير.
– والرقم المضروب بالصفر يصبح صفرا.
وأسس للكثير من القوانين الأخرى والتي ساهمت في تأسيس فكرة الصفر.
انتقلت الأرقام الهندية إلى المسلمين بالترجمة، وبدأت ثورة جديدة، هذه الأرقام أصبحت تسمى بالأرقام العربية بعد ذلك حينما انتقلت تدريجيا إلى الغرب وسميت بالأرقام العربية، ولكنها اليوم كما رأيت في المواقع والكتب أن الأرقام يطلق عليها الأرقام الهند – عربية لتشمل التأثير الهندي والعربي عليها.
الإسم الهائل الذي له ثقله الرياضي في العالم الإسلامي والعربي بل في العالم أجمع هو لأبي عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي ولد سنة 781م وتوفي سنة 847م، قربه المأمون (من الواضح أن المأمون كان لديه اهتمام كبير في العلم في ذلك العصر، فولى الخوارزمي على بيت الحكمة)، أتى بعده الكثير الكثير من الخلفاء الرياضيين والذين اعتمدوا بشكل كبير ورئيسي على كتبه وعلى مبادئه في الرياضيات، ألف الكثير من الكتب ومن أهم كتبه كتاب الجبر والمقابلة، ولكن الكثير منها لم يبق له أثر، ولكن تأثيره العبقري لا يزال معنا، ولربما يبقى إلى الأبد.
قبل أن تدخل الأرقام الهندية على العالم العربي، كانت هناك طرق مختلفة للعد، منها العد على الأصابع، يذكر كتاب موسوعة تاريخ العلوم العربية (الجزء الثاني) – لمركز دراسات الوحدة العربية إلى أن هناك أحاديث شريفة تشير إلى استخدام الأصابع في العد، حيث بهذه الطريقة والتي تسمى بـ “حساب العقود” يعتمد الشخص على الذاكرة والأصابع، فيطوي المحتسب الأصابع في أوضاع مختلفة للترميز لأعداد معينة، وتسمى هذه العملية بالعقود لعلاقتها بعقد الإصبع، أضف لذلك أن العرب كانوا يستخدمون ما يسمى بـ “حساب الجُمَّل”، وتعتمد الفكرة على أن الحروف العربية بترتيبها الأبجدي – على شكل أبجد هوز “أ ب ج د ه و ز” وليس على شكل “أ ب ت ث ج ح” – ترمز إلى الأرقام 1، 2، 3.. ثم تصل إلى 9، بعد ذلك تبدأ بـ 10، 20، 30، … إلى 100، 200، 300، وهكذا إلى الـ 1000، فحينما تريد تمثيل الرقم 563 تستخدم الحروف “ثسج”، أو كلمة “ضمد” تعني 844.
وكانت الطريقة الحسابية للأرقام تتم على لوحة رُشَّ عليها الغبار وباستخدام الإصبع يتم الحساب بحيث تكتب الأرقام ثم تمسح وتتم العمليات تدرجيا إلى أن يصل المحتسب إلى النتيجة النهائية، وسميت هذه باللوحة الغبارية، ويبدو أنها أيضا أتت من الهند، بُدّلت هذه اللوحة بالورقة والقلم تدريجيا (حتى يتم حفظ العمليات الحسابية التي تمت، كالفاتورة التي تتسلمها من المحل وفيها كل عملية شرائية)، هذه الأمور حدثت على مر الزمن خلال فترة الحكم الإسلامي، وبهذا التبديل – من اللوحة الغبارية إلى الكتابة على الورق – تطورت الرياضيات بشكل كبير.
نعود مرة أخرى للخوارزمي، كتب الخوارزمي عدة كتب، من بينها كتابا ألفه بين العام 813 و 830 لم يكن له عنوان، كتب في مقدمته “ألفت من حساب الجبر والمقابلة كتابا مختصرا حاصرا للطيف من الحساب وجليله، لما يلزم الناس من الحاجة إليه في موارثهم، ووصاياهم، وفي مقاسمتهم، وفي أحكامهم وتجارتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم في مساحة الأرضين وكري الأنهار والهندسة” (كتاب موسوعة عباقرة الإسلام – د. محمد أمين فرشوخ)، وفي هذا الكتاب تظهر كلمة الجبر لأول مرة، وعن مستوى تأثير كتاب علم الجبر الذي أسس له الخوارزمي نجد في كتاب موسوعة تاريخ العلوم العربية: “إنه لحدث عظيم، باعتراف مؤرخي الرياضيات، القدامى والمُحْدَثون، ولم تخف أهمية هذا الحدث على رياضيي ذلك القرن أو القرون التي تلته، وما انفك كتاب الخوارزمي هذا يشكل مصدر إلهام، لا للرياضيين بالعربية والفارسية فحسب، إنما أيضا باللغة اللاتينية وبلغات أوربا الغربية، حتى القرن الثامن عشر للميلاد.”
أسس الخوارزمي لعدة أشياء جديدة وبأساليب فذة منها:
+ طريقة حل تعتمد على الجذور، وبكلمة الجذور هنا أعني المجهول وليس مثل جذر الرقم 4 والذي يساوي 2، بل المرادف للجذر هو ما نستخدمه اليوم بالمعادلات مثل رمز س أو ص أو x أو y، ولكن الخوارزمي أسس مصطلح “الجذر” أو “الشيء” (لم تكن الرموز مثل س و ص بعد مستخدمة للتعبير عن المجهول)، ولكن باستخدام كلمة “جذر” أو “شيء” جرد الخوارزمي بهذه الكلمة الحساب بالأرقام.
+ معادلة من الدرجة الأولى والثانية.
+ الحلول الخوارزمية، والتي هي لبنة أساسية وجزء لا يتجزأ من برمجة الكمبيوتر اليوم.
+ برهان صيغة الحل، أي أن الحل لا يقدم هكذا بلا برهان، والعلماء يعرفون اليوم أهمية البرهان، إذ من غير وجود برهان على حل معين تفتقد الحلول للمصداقية.
هناك الكثير الكثير من الأمور الأخرى التي أدخلها في الرياضيات التي لا مجال لها في هذه الحلقة البسيطة، ولكن من هذه القواعد استطاع أن يحل الكثير من المسائل التي تتعلق بمسائل الإرث ومسح الأراضي والتبادلات التجارية، أضف لذلك أن الكثير من القواعد الرياضية التي وضعها الخوارزمي وخلفائه (مثل ابن ترك وسند بن علي، والصيداني، وثابت بن قرة، وأبو كامل شجاع بن أسلم وسنان بن فتح، وأبو الوفاء والبوزجاني) لو أنك تحولها إلى معادلات رياضية باستخدام الرموز س و ص وما شابه، لعرفت أنها لم تكن بتلك المُباشَرة وأنها معقدة، وهذه كان لها تأثيرا مباشرا على الكثير ممن أتو من بعده، وكذلك كان التأثير مباشرا على أوربا بعد أن أدخل فيبوناتشي هذه الطرق الخوارزمية على أوربا، سنعود لهذه الفكرة بعد قليل.
للأسف أن الكثير من الكتب اندثرت، ولم يبقى منها إلا ترجمتها إلى اللاتينية، ولكن أقدم كتاب عربي في الحساب بالأرقام الهندية الذي بقي هو “كتاب الفصول في الحساب الهندي” لأبو الحسن أحمد بن إبراهيم الإقليديسي، والذي ألف في سنة 952م تقريبا، وللأسف أيضا أن هذا الكتاب ليس بالكتاب الأصلي، حيث أن ما لدينا الآن هو نسخة من الكتاب الأصلي كتب سنة 1186، ما نجى من الكتب العربية القديمة والتي ترجع مثلا للخوارزمي في مجال الرياضيات نجى بسبب ترجمتها إلى اللاتينية.
هناك معلومات أود توضيحها وأخرى تصحيحها:
1. الكثير من الناس يعتقد أن الصفر يعود أصله إلى العرب أو المسلمين، وهذه المعلومة غير صحيحة حسب قراءاتي، البداية كانت في الهند، والعرب أخذوها من الهنود، فطوروا الرياضيات باستخدام تلك الأرقام.
2. الكثير يتدوال فكرة أن الأرقام التي تستخدم في الغرب على صورتها الحالية هي في الأصل عربية، هذا الكلام صحيح، ولكن جزء من تلك الأشكال أتت من الهند، وطّورت على مر الوقت لتصل إلى شكلها الحالي، ولذلك وجدتُ أنها تسمى اليوم بالأرقام الهند – عربية، أضف لذلك أن الأرقام كان لها شكلين وليس شكل واحد، فالشكل الأول هو الشرق – عربي وهو يشابه بشكل كبير ما نعرفه اليوم، والثاني هو الغرب – عربي، وهو شبيه إلى حد كبير لما نراه في الغرب اليوم.
3. الكثير أيضا يتدوال فكرة أن الأرقام بشكلها الغربي والتي هي في الأصل هند -عربية رسمت بهذه الطريقة اعتمادا على الزوايا، فمثلا الرقم واحد فيه زاوية واحدة، والرقم 2 لو كتب على شكل حرف الـ z فسيكون فيه زاويتين (كما هو موضح في الصورة التالية)، هذه الفكرة غير صحيحة أيضا، وإن كنت ستجد مواقع كثيرة تدعم هذه الفكرة على الإنترنت من غير أي مصدر.
أتمنى إن كنت ممن يعرفون بدقة هذه المعلومات أن يرسلوا لي رسالة وفيها مصدر معتبر يوضح لي إن كان بحثي البسيط في الموضوع خاطئ، وسأقوم بتصحيح المعلومة في البودكاست مباشرة، ولكن على حد بحثي في الكتب لم أجد أحدا يدعي خلاف ما ذكرته الآن.
بعد انتشار علم الحساب والجبر في العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب، وبعد تطويره في عدة دول وعلى يد العديد من العلماء الرياضيين، التقطه الغرب عن طريق الرياضي المشهور بالإسم فيبوناتشي (Fibonacci)، قام فيبوناتشي بأخذ الكثير من الكتب العربية وبترجمة الكثير منها، وحتى ما كان فيها من ألغاز رياضية مسلية جدا اقتبسه من هذه الكتب وشرح الكثير منها بجهد كبير لينشر الحساب في أوربا، وفي مقابل انتشار الحساب العربي في الغرب تطورت أدوات التجارة بشكل لم يسبق له مثيل، حيث كانت الحسابات التجارية قبل ذلك تتم باستخدام أداة الأباكس الصينية الأصل، وباستخدام الأرقام الرومانية.
حينما نعود لبدايات الحساب في العالم الغربي نجد أنهم كانوا يستخدمون الرموز الرومانية، وكما ذكرت أن الرموز الرومانية لا تعتمد على موقعها في الرقم، فلذلك كان من الصعب جدا استخدامها في الحساب، فمثلا حينما يحتاج أحدهم لضرب رقمين، يقوم بجمعها بشكل مكرر، كما لو أردت أن تضرب الرقم 4 * 5، تقوم بتكرار جمع الـ 5 أربعة مرات، فتخيل الآن تقوم بهذه العملية باستخدام أعداد مكونة من عدة أرقام أو رموز، أي تخيل لو أردت أن تضرب 234 في 986 بالرموز الرومانية، عملية مضنية جدا، لذلك كان البديل للحساب هي آلة الآباكس (Abacus)، وهي الآلة الصينية التي تحتوي على صفوف من الخرز، فيتم تحريك الخرز للحساب بالأصابع إلى الأعلى والأسفل، هناك عدة لقطات على اليوتيوب تبين السرعة التي بإمكان مستخدم الآباكس أن يحسب باستخدامه، أضف لذلك (كما هو مبين في اللقطة التالية) أن البعض بعد استخدامه للآباكس وبتدريب عالي الكثافة يستطيع أن يحسب بمجرد تخيل حركة الخرز فقط، فيقوم بحسابات معقدة جدا.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=wIiDomlEjJw]
صعوبة الحساب بالأرقام الرومانية تسببت في جهل الكثير من الناس في الحساب، فكانت عملية البيع والشراء تعتمد على الثقة في التاجر في حساب المبالغ، وحتى مع ترجمة كتب الخوارزمي إلى اللاتينية (ذلك قبل فيبوناتشي) لم يتقدم الناس كثيرا وذلك لأن الكتب المترجمة كانت موجهة للمثقفين فقط، بينما حينما كتبها الخوارزمي كان واحدة من أهدافه هو نشرها بين التجار، ولذلك كانت التجارة مزدهرة عند العرب وسهلة المنال، هنا يدخل في الصورة ليوناردو بيزانو (Leonardo Pisano) (الملقب بفيبوناتشي) الإيطالي الأصل.
ولد ليوناردو في سنة 1170م لأسرة ثرية، ويعتقد أنه ولد في مدينة بيزا، عاش في أسرة من التجار في مدينة تعتبر تجارية بشكل كبير، كانت إيطاليا في تلك الأيام مصب للتجار من شتى أنحاء العالم، وفي الخلفية لهذه التجارة كان هناك من يقوم بعمليات حسابية لمتابعة الشراء والبيع والضرائب، كل ذلك باستخدام الرموز الرومانية، ومن الظريف أن كلمة بنك أتت من الممولين للمال المتجولين، يأتي أحدهم فيضع عملاته على دكة خشبية أو لنقل طاولة منبسطة طويلة، تسمى باللاتيني بـ “بانكا”، ولذلك بدأ الناس بتسميتهم بانكر (Banker)، وهي الكلمة التي أتت منها كلمة البنك، إذن، إيطاليا اشتهرت بمركزيتها في التجارة بين أروبا والعالم الإسلامي.
سافر ليوناردوا وأبيه إلى دول عربية حوالي المغرب وتونس وغيرها من شمال أفريقيا، وأيضا إلى مصر وسوريا واليونان وتعلم اللغة العربية، وعمل في الفندقة، ولاحظ أبو ليوناردو جويليالمو (Guilielmo) الحساب العربي وأحس بأهميته، وخصوصا أن العرب كانوا يستخدمون هذه الطرق في الحسابات في تجارتهم، فقرر أن يعلم ولده هذا العلم الرياضي، فتعلم ليوناردو هذه الطرق الجديدة، وأعجب بها إعجابا شديد، فألف كتابا اسمه ليبر أباكي (Liber Abaci)، وبالعربية “كتاب الحساب” وقد ترجمه البعض بـ “كتاب الآباكس” والذي هو مكون من 15 فصل.
أعتمد ليوناردو في كتبته لكتاب الحساب على مصادر من اللاتينية والعربية، وفي بداياته اعتمد بشكل كبير على كتاب أبو كامل شجاع (كتاب أبو كامل كان يحتوي على 74 مسألة محلولة، أخذ منها ليوناردو الكثير وكتبها كما هي)، ولكنه حينما أراد أن يتعمق في الجبر اعتمد على كتاب الخوارزمي، وحسب ما يذكر كتاب “رجل الأرقام” أن الكثير من المسائل الجبرية التي طرحها ليوناردو في فصل الجبر أتت مباشرة من كتاب الخوارزمي المترجمة من اللاتينية، وكذلك اعتمد على كتاب لأحمد بن يوسف في علم الهندسة، بالإضافة إلى إضافات من عنده هو ومن خلال مناقشاته مع الرياضيين العرب أثناء السفر، الأهم أنه ملأ كتابة بالكثير الكثير من الأمثلة.
اللطيف أنه أدخل في الكتاب الكثير من الأمثلة الذكية والطريفة، من الأمثلة الطريفة هي أنه أدخل لغزا العنكبوت، والذي فيه يصعد عنكبوت على حائط بداخل صندوق، فيتقدم يوميا عدة أقدام إلى الأعلى، ولكنه يسقط عدم أقدام كل ليلة بعد صعوده، كم يوم سيستغرق للخروج من الصندوق لو أن الصندوق طوله كذا، نفس هذا اللغز تحول إلى لغز ضفدع في حفرة طولها 30 متر مثلا، يصعد يوميا قدمين، ويسقط قدما، كم يوم سيحتاج الضفدع للخروج؟ وضعت هذا اللغز في كتابي “للأذكياء فقط” ولم أكن أدر في حينها العمق التاريخي لهذا اللغز.
بعد أن نشر فيبوناتشي كتابه “كتاب الحساب” كانت تلك هي الإنطلاق لتغيير أوربا بأكملها بتجارتها وبطرق تمويلها ودراساتها، أتى بعده الكثير من العلماء الرياضيات الذين كتبوا كتبا تعتمد على كتابه، واقتبسوا منه، ونشروا علم الجبر في كل أنحاء أوربا، وألغيت الرموز الرومانية واستبدلت بالأرقام الهند – عربية.
لم تكن الرموز الرياضية مثل س وص موجودة في أيام فيبوناتشي، كل المسائل التي تكتب في الكتب كانت تحل بطريقة سردية مطولة، أسس لهذه الرموز هو فرانسوا فيتي (Francois Viete) عام 1591، الذي كان يعمل كمحامي في حياته اليومية، ولكنه كان متفوقا في الرياضيات، فكتب كتابا أسماه “مقدمة في الفن التحليلي” وعمل على استخدام الرموز فيها، فحول الكلمات التي كانت تملأ مجموعة من الصفحات إلى رموز س وص وغيرها، وهكذا حول الصفحات المتعددة إلى أسطر، فأصبحت الرياضيات سهلة جدا بعد ذلك، وأنطلقت إلى مستوى جديد من التطبيق. ولو أن المعادلات المعقدة اليوم يتم كتابتها بالطريقة القديمة بالشكل السردي، لاحتاجت المعادلة الواحدة إلى مجلد كامل لشرحها.
لماذا تطابق الرياضيات الطبيعة بهذا الطريقة الدقيقة؟
كتب العالم يوجين فيجنر (Eugene Wigner) الحاصل على جائزة النوبل في الفيزياء مقالة بعنوان “الفاعلية الغير معقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية” (The Unreasonable Effectiveness of Mathematics in the Natural Sciences)، فيها فكرتين وهما “أن مبادئ الرياضيات تظهر في علاقات غير متوقعة” وأيضا “هي تسمح بوصف دقيق وقريب غير متوقع لتلك الظواهر في هذه العلاقات”، يبدأ المقالة بقصة تبين الفكرة، أطرحها عليك كما هي:
هناك قصة لصديقين كانا زميلين في الثانوية يتبادلان الحديث عن عملهما، واحد منهما أصبح إحصائيا ويعمل في التوجهات السكانية، عرض ورقة على زميله السابق، الروقة بدأت كالعادة بالتوزيع الاحتمالي الجاوسي، فشرح الإحصائي لزميله السابق معاني الرموز المتعلقة بالتعداد السكاني وللمتوسط للتعداد السكاني وهكذا، شك صديقه، ولم يدر إذا ما كان الإحصائي يحاول خداعه،
“كيف لك أن تعرف هذا؟” تسأءل، “وما هذا الرمز هنا؟”
“أوه” قال الإحصائي، “إنه الباي”
“ما هذا؟”
“إنه النسبة لمحيط الدائرة لقطرها”
“أعتقد أنك اتجهت بمزحتك إلى أقصى الحدود”، قال له زمليه السابق، “بلا شك أن التعداد السكاني ليس له أي علاقة مع محيط الدائرة”
فعلا كيف لهذه الروابط أن تتكون بين أشياء يبدو وكأنها لا ترتبط ببعضها؟ ما هي علاقة الباي (π) بالتعداد السكاني؟ وما هي علاقة الرقم التخيلي (جذر 1-) مع الكهرباء؟ وكيف لشيء يكتشف رياضيا اليوم تصبح له أهمية عملية مستقبلا؟ الكثير من الأساليب الرياضية التي اكتشفت لها استخدامات مباشرة وتطبيقات عملية في الطبيعة، في بداية الأمر يقوم العالم بتكوين فرضية معينة، ثم ينشئ الرياضيات التي تحاول أن تطابق هذه الفرضية من الناحية الرياضية، وإذا ما فعل ذلك استطاع استخدام الرياضيات للتنبؤ بالمستقبل (هنا لا نتكلم عن التنبؤ المطلق الدقيق حيث أننا محدودون بعشوائية بالعالم الكمي)، فمثلا بعد أن نراقب المقذوفة نستطيع أن نكون قانونا رياضيا يطابق بدرجة كبيرة حركة المقذوفة، بعد ذلك حينما نريد أن نطلق قنبلة من مدفع، فإننا نوجه المدفع بزاوية معينة، ونطلق القنبلة بقوة معينة اعتمادا على قانون رياضي، وبذلك نضرب الهدف البعيد أيا كان موقعه، هذا بالنسبة للقانون الرياضي الذي يعالج الفرضية، ولكن الرياضيات لا تتوقف عند هذا الحد في تفسيرها للفرضية، بل تنطلق بعد ذلك لتكبر وتتوسع لتعالج قضايا أخرى لم يكن قد حسب لها أي حساب، ولابد أن ننوه أن توسع القوانين الرياضيا لا يكون عشوائيا، بل هناك قوانين تحد الرياضي الذكي من الخروج إلى الخيال والخطأ.
الطبيعة تعمل بقواعد معينة لا تشذ عنها، ولو أنها كانت تشذ في كل مرة لما كان بإمكان العلماء أن يقوموا بدراستها وتكوين قواعد رياضية لها (حتى لا يشكل أحدا في هذه النقطة، أنا أتكلم بعيدا عن المعاجز التي أعطاها الله للأنبياء عليهم السلام، بل أتكلم عن الطبيعة التي نعرفها اليوم بلا تدخل خاص من الله عز وجل)، تخيل لو أنك حينما تركل الكرة برجلك، مرة تتجه الكرة إلى الأمام، ومرة إلى الوراء، ومرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار ومرة إلى الأسفل ومرة إلى الأعلى، ولم تستطع أن تحدد في أي اتجاه ستتجه الكرة، فهل يمكن أن تنشأ لعبة كرة القدم؟ لو أن العلماء لديهم أدنى شك في انتظام الطبيعة لما حاولوا فهمها، لانها لن تفهم.
أضف لذلك وكما يقول فيجنر أن هناك طبقات من القوانين الطبيعية، طبقة فوق طبقة تعلو كل طبقة عن الأخرى بقوانينها الأشمل والأعم من الطبقة التي سبقتها، مثال على ذلك قوانين نيوتن، والتي لا تزال تستخدم في إرسال مركبات فضائية إلى الفضاء، بالرغم من استخدام العلماء لها في الفضاء، ولكنها ليست بتلك الدقة المتناهية، تأتي بعدها في الطبقة الأعلى قوانين آينشتين لتعطي دقة في التفسير الكوني، هذه الطبقية لا تتكون بسبب الطبيعة، ولكنها بسبب الشروط التي تفرض على القانون الرياضي الذي يوضع لتفسير الطبيعة، يعني أننا حينما نتكلم عن قوانين نيوتن التي تستخدم لإرسال مركبة فضائية إلى المريخ، نحن نشترط أن هذه القوانين محدودة بحد من الدقة، ولو أردنا أن نكون أكثر دقة فلابد من استخدام آينشتين للنسبية، أو في مثال آخر، لو أننا أردنا إطلاق قذيفة لتصيب الهدف، واستخدمنا القوانين الرياضية لحساب الزوايا والقوى، نحن نشترط أن لا يكون هناك هواء يدفع بالقذيفة إلى اليمين مثلا، فهناك شروط تحد من فاعلية القوانين، ولكن من الممكن أن ندخل الرياح في المعادلات، وبذلك نكون قد جعلنا القانون أكثر شمولية، فبذلك ننتقل للطبقة الأعلى والأشمل التي شملت الرياح.
الطبيعة بلا شك تتحدث بلغة رياضية، وعلى حد قول فيجنر “تلعب دورا سياديا”، وحينما تتكون الرياضيات لتفسر شيء فإنها تكون مجردة لدرجة أننا نستطيع أن نستخدمها لتفسير الكثير من الأشياء الأخرى، سأضرب مثالا بسيطا حتى أقرب الفكرة للذهن، لو أنك علّمت أطفالا الحساب، وأخبرتهم أن يعدوا خمسة تفاحات، ثم أعطيتهم عدد مساوي من البرتقال وطلبت منهم أن يعدوا البرتقال، سيخبروك أن العدد هو خمسة، ولو أنك أعطيتهم نفس العدد من أي شيء آخر لقالوا لك العدد هو خمسة، إذا العدد خمسة هو شيء مجرد، لا يمكن حده بشيء محدد، الخمسة هي فكرة رياضية بحتة تسود الكثير من الأشياء في الطبيعة وتفسر الأشياء أي كان شكلها أو حجمها أو رائحتها أو ما شابه، أضف لذلك أنه لا يهم إن قلت خمسة باللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، لن يتغير شيء، كلها ترمز لنفس الفكرة، الخمسة مجردة من كل شيء وهي أعلى من كل شيء ترمز له، قارن هذا مع قوانين السقوط الحر للأجسام، حينما تسقط جسمين فإنهما يصلان إلى الأرض في نفس الوقت، هذه القوانين التي تستخدم لتفسير سقوط الجسمين، يمكنك استخدامهما لتفسير قوى الجذب بين الشمس والأرض.
في فيلم كونتاكت (Contact) الخيالي، حينما تكتشف العالمة إلي آروي (Elie Arroway) الإشارات التي أتت من السماء اكتشفت أن تلك الإشارات المرسلة من أعماق الكون كانت تحتوي على قوانين رياضية، تخيل لو أننا أردنا أن نرسل إشارة في الفضاء، ونتوقع أن يلتقطها فضائيين، فبأي لغة من لغات الأرض سنرسلها؟ من البديهي أن أي من اللغات الخطابية لن تنفع، لا الإنجليزية ولا العربية ولا الهندية، ولا أي لغة، ولكن لغة الرياضيات هي التي يمكننا التفاهم باستخدامها، لماذا؟ لأننا نتوقع أن الرياضيات تحاكي قوانين الطبيعة، وقوانين الطبيعة متناغمة منسجمة في الكون كله، ولابد أن الفضائيين في الكواكب الأخرى حينما أرداوا أن يفسروا الطبيعة لابد أنهم توصلوا لنفس القواعد الرياضية، إذن الكون كله يعمل بالرياضيات، والقواعد الرياضية تحاكي الكون كله، وهي لغة أساسية لفهم الكون.
كتبت في مرة سابقة عن الأكوان المتوازية والعوالم المتعددة، تحدثت عن أربعة منها، ولكني تركت عالما أخيرا شاملا جامعا لكل تلك الأكوان، هذا الكون هو الكون الرياضي، وهو الكون العام الذي تندرج جميع الأكوان أسفل منه، هذا الكون الأخير يفترضه ويقترحه العالم ماكس تيج مارك (Max Tegmark) من جامعة إم آي تي (MIT)، ألف ورقة علمية لم تقبل في البداية، ولكنها قبلت بعد ذلك، رفضت لأنها تخمينية تأملية أكثر منها واقعية، وقبلت في النهاية لأن العلم يبدأ من نقطة فيها تأمل وينتهي إلى قواعد صلبة يمكن الاعتماد عليها. نحن إلى هذه النقطة وصفنا الرياضيات على أنها أداة لتفسير الكون، ولكن يتعدى تيجزمارك هذه النقطة ليقول أن الرياضيات هي الكون، أي أن الرياضيات المجردة ليست إلا قمة الهرم لكل شيء في الكون.
يتساءل، لماذا نجد يوما بعد يوم هذه الرياضيات المتناغمة مع الطبيعة؟ لأن ببساطة نحن نكتشف هذه الرياضيات، ولسنا نخترعها، حينما نقول دينار مع دينار يعطينا دينارين أو حينما نقول (One Dinar plus one dinar equals two dinars) أو حينما نكتب 1 + 1 = 2 بالترميز فنحن نصف روابط محددة بين الأشياء، ولسنا نخترع تلك الروابط، بل هي موجودة في الأساس، نحن فقط نخترع الرموز – أي كانت – لوصف البناء الرياضي الموجود، أي أن هناك عنوان أعم للكون الملموس، وهو الكون المجرد الرياضي، الذي يكون كل شيء فيه ليس إلا رياضيات، حتى أنت.
بل أن هناك عوالم متعددة أخرى، كل منها بقوانينه الرياضية المختلفة تماما عن القوانين الرياضية في عالمنا هذا، لاحظ أنه ليست كل المعادلات الرياضية التي نعرفها نجد لها صورة واقعية، أستطيع أن أخلق قانونا رياضيا معقدا الآن، ولكن لا يعني ذلك أنه ينطبق على شيء أبدا في الكون الذي نعرفه، ولكن يتصور تيجزمارك أن لهذا القانون الخيالي في هذا الكون وجود فعلي في كون آخر، وهذا الكون يتركب من تركيبة أخرى مختلفة تسمح لوجود تطبيق فعلي على أرض لهذا القانون الخيالي بحسب كوننا هذا.
أنت الآن تنظر للكون الرياضي من الداخل، فتحس بالمكان والزمان، ترى ما حولك، وتحس بأن الوقت يتقدم، أنت تحتاج لأن تنتظر ملايين السنين حتى تصل لك نقطة ضوء من نجمة بعيدة جدا، كل ذلك يستغرق الكثير من الوقت، ولكن الرياضيات التي تصف هذه العملية والتي تشتمل على الوقت هي في ذاتها غير زمانية، هي تصف الوقت، ولكنها ليس فيها أي انتظار، أنت تعيش بداخل هذا الكون فتعيش بقوانينه الرياضية، لو أنك خارج الكون الرياضي وتنظر إليه من الخارج لكان الوقت الذي يقضي فيه الضوء للوصول من نقطة إلى أخرى لا معنى له سوى بالتجريد، كما لو أنك تشاهد فيلم دي في دي، ما بداخله يأخذ الوقت لعرض القصة، ولكن الناظر خارج الدي في دي يرى ديسكا فيه معلومات بلا توقيت أو مكاني.
الرياضيات والأخلاق
بدأنا من العد البسيط في بدايات المشوار البشري، وانتهينا إلى كون هو في أصوله رياضي، الإكتشافات الرياضية التي أسس لها العلماء الرياضيين معجزة (وصف الإعجاز لم يأت من عندي بل قاله فيجنر في مقالته التي ذكرتها سابقا)، ومن خلال قراءتي لكتاب رجل الأرقام وجدت أن هناك زاوية أخرى للرياضيات مهمة في حياتنا اليومية الأخلاقية، نحن نتحدث عن الصدق والأمانة والأحكام وغيرها من الأخلاق بصورة وعضية، أي أننا حينما نطلب من شخص يصدق في البيع فإننا نطلب منه ذلك بصورة تذكره بالآخرة ويوم الحساب، أنا لن أتكلم عن الآخرة، ولكن ما يهمني هو تأثير الرياضيات على الصدق والأمانة في الوقت الحالي، فلولا تطوير الرياضيات لتصل إلى المستوى الذي هي عليه الآن لما كان للصدق ميزان واضح.
حينما نقل ليوناردو الرياضيات إلى أوربا سحب البساط الحسابي من أيدي التجار ومده تحت عامة الناس، وبدلا من أن يكون التاجر هو الوحيد الذي يعرف كيف يحسب وبالتالي يتحكم في الحسابات أصبح معظم الناس قادرين على أن الكشف عن مصداقية المعاملات التجارية، فأصبح من الصعب على التاجر الغش، أضف لذلك أن ما وصلنا له اليوم من إمكانيات محاسبية مطورة ومبرمجة على الكمبيوتر جعلت من الصعب جدا التلاعب بالأموال، حيث أن بمجرد ما يتم التدقيق على الحسابات تنكشف الأكاذيب.
إذن للرياضيات دور فعال جدا ليس فقط في العلم والتكنولوجيا وغيرها من الأمور المادية، بل وحتى في الأمور الأخلاقية، ولربما لو أردت أن أذكر ما للرياضيات من مزايا أخرى، لما اتسع الزمان لسرد هذه المزايا.
شكرا دكتور خليتني أندم على أني ما كنت أحب الرياضيات :)
أنا سعيد أن الحلقة أثرت فيك
شكرا
Math is a watcher of morality. Nice!
Yes. You got it. As I was reading the book, I realized that math and science affect morality directly. It wasn’t hidden, indirect or unobserved. Science performs lots of checks and sums on moral issues. However, we never get to see this.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحقيقة
أنا مبهور !!!!!
رائع أخي الفاضل … رائع
مباشرة مدونتك في المفضلة ^_^
لا أدري لماذا لم أسمع بك من قبل !!
وسأبدأ من الحلقة الأولي إن شاء الله لأستفيد من هذا الكم الهائل من المعلومات
يشرفني التعرف علي تلك المدونة
أخوك عبدالرحمن من أرض الكنانة ^_^
تقبل تحياتي
أهلا عزيزي عبد الرحمن
عليك بالحلقات التي تثيرك اهتمامك عناوينها، الأولى تسجيلها الصوتي لم يكن بتلك الجودة
ولكن شكرا لك الشكر الجزيل، وأنا سعيد بانضمامك معي
what you have done until now is fantastic.
I thank you about what you do to raise our awareness.
nice job!!!
we are looking forward to teach us doctor ;)
Thanks so much. I’m very happy that you like what you heard so far. Stick around for more, Ahmed.
ماشاء الله عليك يادكتور. عرفت عن مدونتك عن طريق آي فون اسلام ولا اخفيك انني منبهر فكلمة ابداع قليلة عليك يادكتور وكلماتي تعجز عن الوصف. ليس اجمل من ما ابدعت هنا سوى مشاركتك لنا اياه.
دمت بخير, وفقك الله.
شكرا لك، كلمات أعتز فيها.
والله يا دكتور منذ ان اكتشفت مدونتك الرائعة وانا عاكف على قرائة ما فيها من معلومات قيمة جدا. المشكلة ان هذه المعلومات تثير اسئلة كثيرة فهل يمكن اثارة هذه الاسئلة هنا ام هناك طريقة اخرى؟
تحياتي
قبل ثلاث سنوات كنت اتابع مدونتك يادكتور وكنت معجبه في علمك ومعلوماتك
جدا جدا جدا
انقطعت لظروف قاهره
ورجعت ومازال نفس العلم والنور يشع منها
بارك الله في علمك يادكتور ونفعك بك يارب
لك مقالات جديده دكتور ؟؟
شكرا لك إيمان، وشكرا التعليق.
الاسياسيات في الرياضيات وتطبيقاتها في الحياة هل يمكن ان تتصحني بمراجع او مواقع أشكرك فعلاً رائع كل ما تقدمه