مقدمة
بداية، أود الاعتذار عن الإطالة في تقديم حلقة جديدة من السايوير بودكاست، الظروف لم تسمح، المشاغل في هذا الوقت أصبحت كثيرة ومتنوعة، وإن كان الكثير منها يصب في العلم، إلا أنها شغلتني كثيرا.
أود كذلك أن أشكر الجميع على متابعة حلقات البودكاست السابقة وإن أصبحت قديمة، الغريب أنني حينما أتحقق من أرقام إنزال الحلقات أكتشف أنكم لا تزالون تنزلون الحلقات بشغف، رغم مرور وقت طويل على آخر حلقة، وهذا الأمر يسعدني، لأنه يؤكد على ثلاث أشياء، وهي، أولا، ولاؤكم للبودكاست، وحبكم وشغفكم في العلم، وثانيا، بحسب ظني أن المعلومات التي أعددتها للبودكاست محبكة بأسلوب يجعل المستمع يعود لها كمرجع علمي يمكن الاعتماد عليه (وإن لم يكن ليخلو من الأخطاء بين الحين والآخر)، وهذا أيضا هو شيء مفرح بالنسبة لي. ولكم جزيل الشكر على الثقة التي أعطيتموني إياها، وثالثا، البودكاست لا يزال يستقطب الكثير من المستمعين الجدد. فشكرا لهم أيضا.
نعود الآن لموضوع الحلقة، سأتحدث في هذه الحلقة عن قياس الوقت، أو حساب الوقت، لحساب الوقت أهمية كبيرة جدا في حياتنا، بالوقت نستطيع أن ننظم حركة الحياة بمجملها، فالمواعيد الشخصية والالتزام بها يحتاج لمعرفة الوقت، والملاحة تعتمد على الوقت، ومعرفة مواقيت الفصول يعتمد على الوقت، والعبادات أيضا تعتمد على الوقت، حتى الحسابات الفيزيائية تعتمد بشكل أساسي على الوقت، من السرعات والعجلة، والجاذبية وغيرها، بل إن حتى الجسم يعرف بمرور الوقت، فأنت تصحو من النوم بتواقيت معينة، وتعلم الفرق بين مرور الدقائق والساعات.
بالرغم من أن الوقت مهم في حياتنا إلا أننا لا نعرف ما هو الزمن من الناحية الفيزيائية، وليس هناك تعريف واضح للوقت بحد ذاته، فنحن نقوم بقياس مرور الوقت، ولكننا لا نعرف ما هي الثانية أو الدقيقة أو الساعة؟ وكذلك كيف يتم قياس الوقت داخليا في المخ؟ أنت تقوم من النوم في تواقيت معينة، وتعلم كم مر من الوقت عليك نسبيا، ولكن كيف تعلم بذلك؟
سأتحدث عن هذه الموضوع في هذه الحلقة، لن أتطرق كثيرا لمفهوم الزمن، ولكن سيكون التركيز على حساب الوقت.
ما هي مرجعية الوقت؟
الساعة الآن هي 10:00 مساء، عرفت ذلك من النظر إلى ساعتي، ساعتي دقيقة جدا، فهي تعتمد على ذبذبات الكوارتز لمعرفة الوقت بدقة، وهي تتأخر ثانية واحدة وعشر الثانية كل سنة تقريبا، لا بأس فذلك تغير طفيف بالنسبة لي، ولكن هناك ساعات أدق منها بكثير، فهناك مثلا الساعة الذرية، فقد تتأخر هذه الساعة، والتي تستخدمها بريطانيا، بقدر ثانية واحدة كل 138 مليون سنة، وأما التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية والتي أطلقت سنة 2014 فهي تخطئ بقدر ثانية واحدة كل 300 مليون سنة، ولكن هناك ساعات حديثة يعمل عليها العلماء في المختبر وتستطيع أن تقيس الوقت بدقة أكبر من ذلك، حيث أنها تفقد ثانية واحدة كل 5 مليار سنة، وهذه المدة هي أطول من عدد السنوات التي تكونت فيها المجموعة الشمسية. بل هناك أيضا ساعة يعمل عليها العلماء حاليا تخطئ ثانية واحدة كل 30 مليار سنة، وهو أكبر من عمر الكون الذي نعيش فيه.
كل هذه الساعات، كل هذه الحسابات الدقيقة، كيف عرف العلماء بصحتها؟ كيف عرفوا مقدار الفترة الزمنية للثانية الواحدة؟ فكر قليلا في السؤال، ما هو المرجع للثانية الواحدة؟ فالمتر له مرجع، فهو المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ خلال الفترة الزمنية 1/299,792,458 ثانية (أي جزء واحد من سرعة الضوء)، وكذلك فإن الكيلو غرام له مرجع، فالكيلو غرام الواحد تتساوى كتلته مع النموذج العالمي للكيلو غرام، وهي كتلة مكونة من مادتي بلاتينيوم بقدر 90?، والباقي هو إريديوم (ويبدو أنه سيكون هناك اجتماعا هذا العام لتغيير تعريف الكتلة لتكون أكثر دقة معتمدة على ثابت بلانك).
من هذا يتبين أن المتر والكتلة كلاهما عبارة عن تعريفين، ومن خلال الضوء نستطيع أن نعرف المتر، ومن خلال كتلة محددة تم تعريف الكيلوغرام، ولو أن أحدا أراد أن يعرف بدقة متناهية ما إذا كان طول الشيء الذي يقيسه هو مترا واحدا، فيستطيع أن يرجع للتعريف، ويقوم بقياساته الدقيقة باستخدام الضوء مثلا ليعرف النتيجة، وكذلك بالنسبة للكيلو، إن أردنا أن نعرف ما إذا كان الذي نقوم بقياسه هو كيلوغراما واحدا نستطيع أن نقيم مقارنة مع النموذج العالمي.
لنأتي إلى الثانية، ما هو تعريفها، وكيف يمكن للعلماء أن يصنعوا شيئا يخبرنا بقدرها بحيث نستطيع أن نعرف أن ما مر من وقت هو ثانية بالضبط؟
لاحظ، أنه حينما تقود سيارتك وتنظر إلى عدادات لوحة القيادة لوجدت أنها تقول أن السرعة هي 100 كيلومترا في الساعة مثلا، أي أن السيارة تستطيع قطع 100 كيلو متر واحد خلال ساعة واحدة، وفي خلال ساعتين ستكون قد قطعت 200 كيلومتر (وهكذا إن لم تكن هناك عراقيل تبطئ السيارة في الحركة). إذن، السرعة هي المسافة المقطوعة خلال فترة زمنية ومعينة. فالسرعة هي أن التحرك خلال الفضاء نسبة إلى الوقت.
الوقت يمر أيضا، ولكن الوقت يمر خلال ماذا؟ هل نستطيع القول أنه قد مر خلال ساعة مثلا؟ بالطبع لا، فلا معنى لأن يمر الوقت خلال الوقت كما قلنا في السرعة، إذن حينما يقيس الناس الوقت علام يستندون كوجه للمقارنة، حينما نقول أن ساعة مرت على تسوقي أو رياضتي، كيف نعرف أن ساعة مرت بالفعل؟
في الحقيقة، ليس هناك شيء محدد ومميز كالمتر والكيلوغرام يمكن مقارنة الوقت به، بل إن كل الساعات في العالم تعتمد على المقارنة مع بعضها البعض، فحينما نقول أن الساعة الآن هي الواحدة ظهرا ودقيقتين وخمس ثوان، وندعي أن الوقت هذا هو دقيق للغاية، فنحن نقصد أن الوقت بالمقارنة مع الساعات الأخرى هو كذلك، فليس هناك مرجعا له، ولذلك فإن الثانية هي تعريف لمرور قدر ما من الوقت. شيء محير أليس كذلك؟
ساعات تقيس الوقت
بعد أن علمنا أن الوقت هو شيء مُقارَن، نتساءل كيف يتم صناعة شيء يقيس الوقت؟ نحن نعرف عن المزولة الشمسية،، فهي تعتمد على الظل الناشئ من موقع الشمس، حينما تدور الأرض حول نفسها ستبدو لنا الشمس ظاهريا وكأنها هي التي تتحرك، لتشرق ثم تمر عبر السماء إلى أن تغرب، وحينما نقوم بوضع أداة قائمة على الأرض، ونتابع حركة الظل، نستطيع معرفة الوقت، ويمكن تقسيم المزولة إلى أقسام مختلفة للحصول على عدة ساعات خلال اليوم.
ولكن المزولة ليست دقيقة بما فيه الكفاية، وهي أيضا تعتمد على موقعها وارتفاعها من الأرض وعلى حركة الشمس التي تختلف من سنة إلى سنة، فأدق مزولة على الأرض وهي SINE SOLE SILEO، وهي موجودة في منطقة “ميوتا ميوغل” Muottas Muragl في سويسرا، وهي قادرة على حساب الوقت بدقة 10 ثوان كحد أدنى (بحسب زعمهم).
أنت تلبس الساعة، وهي تقيس الوقت، إنها دقيقة جدا، لأنها تعتمد على الكوارتز، وقد ذكرت سابقا أنها تتأخر بقدر ثانية وعشر الثانية في السنة الواحدة، كيف لهم أن يحرزوا مثل هذه الدقة، كيف تعمل ساعة الكوارتز؟
مادة الكوارتز عبارة عن ثاني أكسيد السيليكون الكريستالي، أي أنه يتكون من ذرتي أكسجين وذرة سيليكون، لهذا الكريستال خاصية تسمى بالكهرباء الانضغاطية (Piezoelectric)، حينما يتم الضغط على الكوارتز فإن شحنة كهربائية صغيرة جدا تتكون على أطرافه، ولو كانت هذه الشحنة كافية لأضأنا بها ضوء صغيرا. وكذلك فإن العكس أيضا صحيح، فحينما يعرض الكوارتز لشحنة كهربائية فإنه ينضغط، وحينما يتوقف ضخ الشحنة الكهربائية خلاله يعود للتمدد.
قبل أن أشرح فكرة عمل ساعة من الكوارتز، لابد أن نفهم فكرة الشوكة الرنانة، قد تكون رأيتها في مختبر الفيزياء في الثانوية العامة، وهي عبارة عن قطعة معدنية على شكل حرف U، وأسفل الحرف هناك مقبض للمسك بها، حينما نطرق هذه الشوكة فإنها تتذبذب بتردد معين، وهو تردج ثابت بحسب خصائص الشوكة.
حتى يمكن الاستفادة من خاصية في الكوارتز الانقباضية والانبساطية، يقوم العلماء بصناعة شوكة منه، ثم يعرض الكوارتز لتيار متردد (ينطفئ ويشتغل) مرة تلو الأخرى بسرعة كبيرة، فينغط وينبسط الكوارتز بتردد ثابت، وهذا التردد هو 32,768 مرة في الثانية الواحدة (هذا بالنسبة للساعات الحالية، حيث الساعة القديمة ربما لم تكن تتذبذب شوكاتها بنفس السرعة). وتقوم بعد ذلك دائرة كهربائية بعد هذه الذبذبات، ومنها يمكن معرفة الثانية الواحدة.
هذه هي فكرة الساعة الكوارتز، وهي فكرة عبقرية، لم تأت من فراغ، بل مرت بمراحل بدأت من البندول والزنبرك الملتف، وغيرها من البندولات الأخرى، إلى أن وصلت إلى الكوارتز. ولكن ما نريد أن نستلهم من هذه الساعة هي فكرة الذبذبة، وهي الفكرة التي تعتمد عليها الساعات الأخرى الأكثر تعقيدا.
فالساعة الذرية أيضا تعتمد على تردد الموجود في الذرات، وتستخلص هذه الترددات بطرق معقدة جدا يطول شرحها، ومن خلال معرفة الترددات يمكن معرفة الوقت، وكلما كانت الترداد أكثر في الثانية الواحدة، كلما كانت الساعة أكثر دقة، لن أخوض في الساعات الذرية، لأنها معقدة جدا، وتعتمد على الذرات والإلكترونات والأشعة والليزر وما إلى ذلك.
مشكلة الوقت
بعد أن علمنا كيفية حساب الوقت، وعلمنا أن الوقت ليس له تعريف واضح، نأتي لمشكلة أخرى في الوقت أو الزمن، حيث أنه نسبي، فليس هناك ثبات للزمن لكل المراقبين، فالثانية بالنسبة لي تختلف عن الثانية بالنسبة للشخص الذي يقود السيارة وكذلك بالنسبة للشخص الذي يقود الطائرة أو الذي يركب المركبة الفضائية، فلو أن حسن وأيمن كل منهما لبس ساعة دقيقة جدا، وقاما بتعيير الساعتين ليتطابق الوقت بينهما، وانطلق حسن في مركبة فضائية بسرعة ورجع إلى أيمن، سنجد أن الساعة على يد حسن متأخرة عن ساعة أيمن، وربما يصل التأخر إلى عدة سنوات، وقد يكون وأن ساعة واحدة من الزمان فاتت على حسن، بينما كبر أيمن عدة سنوات، هذا إن لم يشخ أيمن ويصبح أبا ثم جدا، وربما توفي منذ زمن بعيد، وقد تحدثت عن ذلك في حلقة النسبية الخاصة، تستطيع الرجوع لها لفهم الفكرة من وراء هذه الفروقات.
وكذلك فإن الزمن يختلف على الأرض منه على المريخ أو بجانب الشمس، وهو أيضا يختلف حينما يكون الجسم بالقرب من الثقب الأسود، حتى بالنسبة لرواد الفضاء فالوقت يختلف بالنسبة لهم بحسب قربهم أو بعدهم من الأرض، فالجاذبية أيضا تؤثر على مرور الوقت، فمن يكون على الأرض يمر الوقت عليه بتباطؤ، بينما في السماء حيث الجاذبية أقل فإن الوقت يمر بسرعة أكبر.
إذا لم تشاهد فيلم “انترستلر” أنصحك أن تقدم البودكاست قليلا لأني سأفصح عن إحدى أهم الأحداث فيها، تستطيع أن تنتقل الآن.
إحدى أهم النقاط التي ركز عليها فيلم انترستلر هو اختلاف الوقت بالنسبة للناظرين المختلفين، وقد كرروا هذه المعلومة العلمية عدة مرات شفاهة، فذكروا أنه حينما يكون المراقب بالقرب من جاذبية عالية وآخر في جاذبية منخفضة، فإن الجسم الذي يكون عن الجاذبية العالية يمر عليه الوقت ببطء شديد بالمقارنة مع الذي يتأثر بالجاذبية المنخفضة. حينما ظهر المشهد الذي يبين هذه الفكرة استغرب الحاضرون (كما لاحظت أثناء تواجدي في السنيما).
ما حدث هو أن العلماء قرروا الذهاب إلى كوكب قريب من ثقب أسود، على أن يبقى شخص واحد في المركبة الأم بعيدهم عنهم (أي في جاذبية منخفضة)، فقال لهم العالم الذي قرر البقاء أنهم سيذهبون إلى الكوكب لدقائق، ولكنه سينتظرهم في المركبة لمدة سنوات، فقرر أن يقضي هذه السنوات في دراسة الثقب الأسود.
بعد أن نزلوا إلى الكوكب واجه العلماء ظرفا طارئا فأرغمهم على البقاء مدة أطول في الكوكب، وحينما سنحت الفرصة للعودة إلى المركبة الأم، وفتحوا الأبواب بعدما وصلوا لها، فإذا بالعالم الذي انتظر رجوعهم كان يرحب بهم ببرود وتثاقل شديدين، وبدت على لحيته بقع من الشعر الأبيض، وصرح لهم أنه انتظرهم 23 وعشرون سنة في المركبة، بينما لم يمر على العلماء الذين نزلوا إلى سطح الكوكب سوى عدد قليل من الساعات. مشهد مذهل أثارني بشدة رغم معرفتي العلمية بهذه الموضوع.
كل هذه الفروقات الزمنية التي تمليها النظرية النسبية الخاصة والعامة لآينشتاين هي حقيقية، وليست مجرد تغيير في الأجهزة الإلكترونية التي تقيس الوقت بسبب السرعة أو الجاذبية، بل إن كل ما يدور حولك يتغير، فنبضات قلبك ونمو خلايا جسدك تتغير بحسب السرعة والجاذبية. شيء عجيب للغاية، ولكنه مثبت علميا ومجرب في المختبرات بما لا يدع مجالا لأي شك.
أجهزة الملاحة وقياس الوقت
لم يبق إلا القليل من الناس الذين لا يمتلكون أجهزة الملاحة، فأنت وإن لم تكن لتمتلك جهازا مخصصا لمعرفة الموقع، ولكنك بالتأكيد تمتلك هذه التقنية في جهاز الهاتف الذكي، فهو الذي يقدم لك معلومات عن موقعك على الخريطة، وهو الذي يسجل هذه المعلومات على الصور التي تنزلها على الإنترنت، وهو الذي يحدد موقعك ليعلم أصدقاءك على الفيسبوك أين أنت، وقد تستخدمه أيضا في الطريق للاستدلال على المناطق.
هذه التكنولوجيا تعتمد وبشكل أساسي على حساب الوقت من خلال 24 ستالاياتا يدور حول الأرض على مدار الساعة. إحدى وعشرون منها ملاحية وثلاثة احتياط. كل واحدة منها تدور دورة كاملة كل 12 ساعة. لقد قام العلماء بحساب مساراتها وإطلاقها بحيث تكون هناك أربع ساتالايتات على الأقل ظاهرة مرئيا على أي بقعة من بقاع الأرض وفي أي لحظة.
على متن كل ستالايت ساعة ذرية دقيقة جدا، وهي تقوم بحساب الوقت، حينما يلتقط جهاز الملاحة الموجود معك الإشارة القادمة من القمر الصناعي، فإنه يلتقط توقيت الساعة وكذلك موقع القمر الصناعي، ومن خلال معرفة الوقت الذي تستغرقه الإشارة للوصول من القمر إلى جهاز الملاحة (والتي هي بسرعة الضوء)، وباستخدام عدة أقمار صناعية يمكن للجهاز حساب موقعك بدقة كبيرة، هكذا يحسب المكان وسرعة الحركة.
ولكن الساعة الذرية هذه تختلف في حسابها للوقت بالمقارنة بالساعات الذرية على الكرة الأرضية، فالأربعة وعشرون ساعة بالنسبة لها تختلف عن الأربعة وعشرون ساعة بالنسبة للساعة الأرضية بقدر 38 ميكرو ثانية (أو 38 جزء من مليون من الثانية)، لا ننسى تأثير النظرية النسبية الخاصة والعامة على الزمن. لذلك عير العلماء الساعة على كل الأقمار الصناعية لتسير بقدر 38 ميكرو ثانية أبطأ لكل يوم واحد من الساعات الأرضية.
ثمان وثلاثون جزء من مليون من الثانية من يوم واحد! ما السبب في وجود هذا الفارق الزمني؟ يأتي هذا الفارق لسببين، ويعود السببان إلى نظرية آينشتاين النسبية الخاصة وأيضا النسبية العامة. فبسبب سرعة حركة القمر الصناعي في دورانه على الأرض (14,000 كيلومترا/ساعة) تتباطأ الساعة بقدر 7 ميكرو ثانية، هذا بالنسبة لقانون النسبية الخاصة، أما بالنسبة للنسبية العامة، وبسبب وجود الجاذبية، فإن الوقت يتسارع بقدر 45 ميكرو ثانية، أي أن الحالة الأولى تتسبب في تأخر الوقت، والثانية في تقدمه، وحينما نحسب الفرق نجد أن المحصلة النهائية هي 38 ميكرو ثانية.
أوووه! ما الفرق؟ فـ 38 جزء من مليون من الثانية لن يؤثر كثيرا، أليس كذلك؟ إن كنت تظن أن هذا الفارق البسيط لا يؤثر فاعلم أنه لولا استخدام نظريتي آينشتين، لكانت الأقمار الصناعية – بتأخرها بقدر 38 ميكرو ثانية – تزداد أخطاؤها بقدر 10 كيلومترات يوميا، فلو بدأت اليوم بأخذ موقعك باستخدام جهاز الملاحة، ثم أتيت بعد أسبوع في نفس المكان وأخذت قراءة أخرى، فسيخبرك الجهاز أنك تبعد عن موقعك بقدر 70 كيلومتر، لن يمكن الاستفادة من هذه المعلومات، وكل هذا بسبب هذا الفارق الذي لا يكاد يذكر.
إذن، لولا وجود نظريات آينشتاين والذي تبين اختلاف الوقت بحسب الحركة والجاذبية لن نتمكن من حساب المسافة بالشكل الصحيح.
قبل قليل ذكرت أن هناك ساعة تخطأ بقدر ثانية واحدة كل 5 مليارات عام، ولأن الساعة بهذا المستوى من الدقة سيكون هناك تأثيرا مباشرا للنسبية العامة عليها، فلو أننا وضعنا هذه الساعة على الأرض، وأخرى شبيهة بها على الحائط بارتفاع امتداد اليد فوق الرأس، فإن الوقت سيمر بسرعة أكبر في الأعلى، ولتأخرت التي على الحائط بنسبة بسيطة جدا. بل حتى الاختلافات في قشرة الارض من ارتفاعات وانخفاضات ستغير مرور الوقت على كل واحدة من الساعتين. وفي هذه الحالة لن يكون هناك أي إمكانية لجعل الساعتان متزامنتان.
تخيل لو أن الاختلافات في الوقت كانت واضحة بالنسبة لنا، وكنت أنا أعمل في الطابق الأرضي، وأنت تعمل في نفس المبنى في علو 10 طوابق، لن نستطيع أن نتفق على موعد بعد نصف ساعة مثلا، فإن أتيت إليك بعد 30 دقيقة بحسب توقيتي الشخصي، فستقول لي: “لماذا أنت هنا، لقد تأخرت 5 ساعات”، بالطبع فإنه لا يمكن استشعار الفارق حسيا أو حتى باستخدام الساعات الاعتيادية، ولا حتى الذرية الموجود حاليا (بالنسبة لهذا الارتفاع)، الفارق لا يستشعر إلا في الساعات المتناهية الدقة.
الرجل الذي فقد ذاكرته
“هنري غوستاف مولاياسون” الرجل الذي أخفي اسمه تحت ستار حرفين .H.M إلى أن توفي لكي لا يضايقه الناس، لا يتذكر أي شيء حصل له بعد عملية المخ الجراحية، فقد أزيل من دماغه الحُصين (hippocampus)، وكل ما يحصل له بعد تلك العملية لا يسجل في ذاكرته، وكل ما يحصل له وإن تكرر جديد. بعد دراسات متتكررة على مدى سنوات، اكتشف العلماء كيف يتذكر ويحسب الوقت المخ، هذه هي قصة الرجل الذي غير نظرة العلماء للذاكرة إلى الأبد.
بعد أن سقط هنري على الأرض في اصطدام دراجة به، أصيب بشرخ في جمجمته، فانتفض جسده بشدة وتذبذب، فقد دخل في صرع شديد، لا يعلم أن كانت السقطة هي السبب في الصرع أم أن جيناته التي ورثها من أهله المصابين بالصرع كانت هي السبب، قد يكون وأنه ورثها، ولكن انطلاق الصرع في حياته يعود لتلك السقطة.
بعد الحادثة تكرر الصرع عليه عدة مرات يوميا، فكان من الممكن يسقط في أي لحظة، ويلتوي على نفسه ويتعصر، ويزبد فمه، وتؤصد جفونه على عينيه ثم يتبول على نفسه، وصلت به الحالة أن تكرر عليه الصرع بقدر 10 مرات في اليوم في بعض الأيام، ولم يكن لينجو اسبوع كامل من غير أن تتلبسه هذه الحالة الكابوسية.
بقي في هذه الحالة ابتداء من عمر السبع سنوات مرورا بأيام المدرسة والتي عانى فيها من مضايقات أصدقائه واستهزائهم به، وازدادت نوبات الصرع حينما وصل إلى سن السادسة عشر، حتى أن وصل إلى سن السابعة والعشرين قرر أن يقوم بعملية جراحية تزيل منه المشكلة إلى الأبد، ولكن ما لم يتوقعه أحد هو أن بإزالة الصرع جراحيا أزيلت معها أهم ما يمتلكه في حياته: الذاكرة.
دخل هنري إلى مستشفى هارتفورد وتحت إشراف الطبيت وليام سكوفيل، عُرف عن الدكتور أنه يقيم عمليات جراحية تجريبية، فاقترح عليه أن يزيل الحصين من دماغه لكي تتوقف معاناته. الطبيب وليام كان جراحا مختصا في المخ، وقد أقام عدة تجارب على البشر لإزالة أجزاء من أدمغتهم، ومن خلال التجارب المتعددة وصل إلى الاعتقاد (كما كان يعتقد سابقا) أن الحصين هو المسؤول عن تلك النوبات، فأقنع هنري بإجراء العملية.
لم يكن يعرف الدكتور وليام النتائج التي تترتب على إزالة هذا الجزء من المخ، فلم يكن أحد يعلم كيف يعمل تماما، كان الاعتقاد السائد أن الحصين هو المسؤول عن العاطفة، وإزالته لن تؤثر إلا على عواطف هنري. وقد أجريت عمليتين لإمرأتين في السابق، وتبين أن الصرع ينخفض عند إزالته منهما، المشكلة أنه الأطباء الذين أزالوا هذه الأجزاء من الإمرأتين لم يتابعوا الحالتين بعد ذلك ليعلموا ما حصل لهما.
أدخل هنري إلى غرفة العمليات، وأزيل 3 إنشات من الحصين، حيث قطعها الدكتور تدريجيا، وكذلك أزال د. وليام اللوزة الدماغية (amygdalae) التي كانت معلقة على أطراف الحصين، وأجزاء أخرى بسيطة، ظن أنها لن تفيد المريض بعد إزالة الحصين. نجحت العملية الجراحية.
عاد هنري لطبيعته بعد أيام، وتحدث مع أسرته بأسلوب طبيعي، واختفى منه الصرع بشكل شبه نهائي. ولكن ظهرت أول مشكلة، حيث فقد هنري 10 سنوات من ذاكرته، ولم يعد يتذكر شيئا قبل العملية رجوعا إلى عشر سنوات في الماضي. والأسوأ من ذلك أنه لم يستطع أن يتذكر أي شيء يحدث له بعد العملية. فكلما دخل عليه شخص جديد وتعرف عليه بحرارة، إن خرج ذلك الشخص من الغرفة وعاد، سيتلقاه هنري بنفس الحرارة، وكأنه شخص جديد لم يره من قبل.
السبب لعدم تكوينه لذاكرة جديدة يعود لكون الحصين هو المسؤول عن نقل المعلومات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة الطويلة الأمد، المعلومات تصل إلى القشرة الدماغية عن طريق الحواس، فتسجل مؤقتا حتى يأتي دور الحصين، فيقوم بإنتاج بروتينات تساعد في تضخيم أطراف الخلايا العصبية “آكسونات” (Axons)، وبالتاتي تقوم هذه الأكسونات بتفعيل نواقل عصبية أكثر لجاراتها الخلايا العصبية، وبالتالي تتقوى العلاقات بينها، فتُحفظ المعلومات الجديدة، وبإزالة الحصين لم يعد هنري قادرا على تخزين معلوماته في المخ، فأصبحت كل لحظاته آنية، فيما ما عدا ما يتذكره من الماضي البعيد.
تأثر د. وليام جدا لحالة هنري، حيث لم يكن يعلم أن العملية ستأتي بهذه النتيجة السيئة، وأخفى قلقه لفترة من الزمن، حتى اعترف يوما ما لطبيب آخر قبل أن تنشر ورقة علمية في تأثير إزالة الحصين على الذاكرة. فقد أزال الطبيب الآخر الحصين من بعض المرضى، ولكنه أخذ حذره في عدم إزالة الحصينين من فصي المخ (كما فعل د. وليام)، وأراد أن ينشر ورقة علمية توضح ما حصل للمريض.
كلما خرج هنري إلى الحمام وعاد إلى غرفته، نسي مكانه، فاضطر للسؤال عن الحمام مرة أخرى، لم يعد يتذكر أي اسم لشخص تعرف عليه، حتى أنه لو تناول الطعام ونسي أنه أكل قبل قليل، سيعود لتناول الطعام مرة أخرى، ولذلك كان لابد من العناية بوجباته. فقد هنري قدرته على العمل في وظيفته، وعاش مع أسرته، وتغير صوته ليصبح بلا نغم ولا نبرة، وفقد اهتمامه في الجنس، وحينما كان يشاهد المسلسلات التلفزيونية، لم يكن ليسأم من تكرارها، فكل مكرر بالنسبة له جديد.
وبعدها بدأ سيل التجارب النفسية على هنري لمعرفة كيف تأثرت ذاكرته. بدأت الدكتورة “برندا ميلنر” بسؤاله أسئلة متنوعة لتكتشف ما كان يتذكره، من الواضح أن هنري فقد الكثير من ماضيه ولا يخزن شيئا من الحاضر، لذلك قامت برندا بالتحول إلى دراسة ذاكرته من الناحية “المُحرِّكية” (Motor). وهنا اكتشفت أمرا عجيبا للغاية.
اتضح للدكتورة برندا أن هنري يستطيع أن يتذكر ما يحفظه من الممارسة الحركية، رغما عن فقدانه لقدرة حفظ ما يراه وما يسمعه، فمثلا، رسمت له رسمة نجمة بداخل نجمة، وطلبت منه أن يرسم خطا في القناة بين النجمتين باستخدام القلم، على أن يرى حركة يده وهو يخط بالقلم من خلال مرآة، القيام بهذا الشيء من خلال المرآة هو شيء جديد، ولم يتعود عليه هنري من قبل، وحينما قام بالتجربة بدأ بالخروج من الخط، لأن المرآة تعكس حركة اليد، ليصبح اليمين يسارا واليسار يمينا، فكان الخط يخرج بسرعة إلى خارج النجمتين.
كلما عادت الدكتورة لاختباره يوما بعد يوم، تبين أن هنري تتضاعف قدرته على الرسم بداخل النجمة، حتى أصبح قادرا على رسم الخط بدقة كبيرة وبسرعة، رغما عن عدم تذكره بالقيام بالتجربة هذه ولا مرة واحدة. وكأن يده تتذكر، ولكن عيناه نسيتا. حتى أنه لما رأى التجربة للمرة الثلاثون اعتقد أنه سيواجه صعوبة في رسم الخط، ولكن اكتشف أنه كان سهلا بالنسبة له، بالرغم من أنه قام بهذه التجربة لأول مرة في حياته، كما كان يظن.
عندها اكتشفت برندا أن الذاكرة متنوعة، وخلافا لما كان يعتقد في السابق بأن كل أنواع التذكر هي واحدة، وأن المخ يخزنها بنفس الطريقة، اكتشفت أن هناك نوعان من الذاكرة، واحدة تسمى بالذاكرة “التصريحية”، وهي الذاكرة التي تسمح بتذكر أسماء وتواريخ ومعلومات، والأخرى تسمى بالذاكرة “الإجرائية”، وهي التي تسمح بتذكر الأمور الحركية لا شعوريا، مثل مسك القلم، وقيادة السيارة غيرها، وهي أيضا التي نستخدمها في الطفولة لتعلم المشي والتحدث. أما المعلوماتية، فتبدأ لاحقا في العمر. فهل تتذكر شيئا في طفولتك المبكرة؟
وأيضا اكتشفت الدكتورة أن هناك ما يسمى بالذاكرة المؤقتة، ففي يوم من الأيام طلبت من هنري تذكر رقم معين، وعادت له بعد فترة، فتفاجأت أنه يتذكره، كيف يمكن أن يحدث ذلك وهو لا يستطيع يتذكر شيئا؟ تبين أن هنري كان يعيد على نفسه الرقم عدة مرات إلى أن عادت إليه الدكتورة وسألته عنه، ولذا استطاع تذكر الرقم، ولو أن الدكتورة أخلت بتكراره للرقم، وغيرت من تركيزه عليه، لاختفى الرقم من ذهنه إلى الأبد. وهذا الاكتشاف يعني أن الذاكرة المؤقتة موجودة في منطقة أخرى من المخ.
بعد ذلك أتى علماء آخرون لإقامة التجارب عليه، وبعد انتقاله هو وأسرته إلى بيت جديد، طلب منه العلماء أن يرسم خريطة للبيت، وبعد أن تعود على التحرك فيه ذهابا وإيابا مرارا وتكرارا، وبسبب الذاكرة الإجرائية، استطاع أن يرسم خريطة للبيت الذي طبعت تفاصيله بداخل ذهنه بطريقة غير مباشرة.
حتى الوقت كان مختلفا لهنري، حيث أنه يعرف كم من الوقت مر إنْ مرت عليه مدة 20 ثانية، ولكنه لم يعرف كم من الوقت مر إنْ فاته أكثر من ذلك، فمرور خمسة دقائق كانت تشعره بمرور 40 ثانية. ومرور ساعة كاملة لم تكن تعني إلا ثلاث دقائق بالنسبة له، حتى ذلك كان دليلا على أن المخ يعرف الوقت بطريقتين، واحدة ذهبت مع الحصين، والأخرى القصيرة المدى موجودة في مكان آخر من المخ.
دخل إلى دار الرعاية بعد وفاة والداه. وأخفي هو واسمه عن الناس المتطفلين، كان أحيانا يرفض أن يتعاطى الدواء، فكانت الممرضات يهددنه بالدكتور وليام الذي أجرى له العملية قبل سنوات طويلة، فينكسر بسرعة ويستسلم ويأخذ الدواء، حتى وإن كان قد توفي الدكتور منذ زمن بعيد. وبين الحين والآخر يغضب غضبا شديدا إن أغاضه أحدهم أثناء اللعب، فيضرب رأسه بالحائط أو يمسك بفراشه ويهزه كالغوريلا التي تهز قفصها. رغما عن ذلك فقد كان يقضي معظم أوقاته في هدوء.
مئات العلماء درسوا حالة هنري، وفهموا الكثير عن المخ من خلال ذاكرته، وبقي تأثيره معنا في الذاكرة المكتوبة علميا، وإن بقي هو معلقا في الأربعينات. توفي هنري غوستاف مولاياسون سنة 2008 وهو في سن الـ 82، أُخذ مخه، وقطع إلى 2041 شريحة، وصورت الشرائح للدراسة، ثم كشفت قصته للعالم بعد ذلك. وها أنتم الآن تعرفونه، وتعرفون أهميته.
حساب الوقت في المخ
هنري مولاياسون فقد قدرته على تحديد الوقت، ومن خلال قصته اكتشفنا أن جزء محددا من مخه كان مسؤولا عن الحسابات الزمنية، نحن أيضا نعتمد على المخ لحساب الوقت، فمثلا نحن نفيق من النوم في أوقات معينة تعودنا على الإفاقة حينها، أو أننا نشعر بالحاجة إلى النوم في وقت محدد، وكذلك فإن المخ قادر على معالجة الوقت بدرجة متفوقة جدا، ربما تتصور أن هذه مبالغة، فقد تقول أن لديك المقدرة على معرفة كم مر من الوقت إلى درجة معينة من الكفاءة، فمثلا قد تمر عليك 4 دقائق، ولكن تشعر بمرور 3 أو خمس دقائق، وأحيانا تكون في حالة من الملل فتشعر وكأنما الوقت يمر ببطئ شديد أو العكس بالعكس، فكيف يقال أن لدينا موقت بدرجة كبيرة من الدقة؟
ارجع قليلا في ذاكرتك، ربما استمعت إلى موسيقى، ولاحظت أن هناك عدم تزامن بين الإيقاع والعزف مثلا بدرجة بسيطة جدا، أو رأيت لقطة يوتيوب، وكانت شفة الشخص تتحرك متأخرة بدرجة قليلا من كلامه، أنت تستطيع أن تميز الفروقات بين الأصوات بقدر خمسة أجزاء من ألف من الثانية بحسب دراسات علمية، هذا التمييز يحتاج إلى ساعة داخلية دقيقة.
بل إن المخ يقوم بعمليات أكثر أهمية من ذلك فهو ينظم علاقة الأشياء ببعضها لتبدو وكأنها متناغمة ومنسجمة مع بعضها البعض، فمثلا ذكرت قبل قليل أنك ستلاحظ أن شفة شخص تتحرك من غير انسجام مع كلماته، لو أن هذا الانسجام كان صغيرا جدا بقدر أجزاء بسيطة من الثانية، فإن المخ يقوم بمنتجة الصوت والصورة لكي يشعرك وكأنهما يتماشيان معا تماما، حتى لا تشعر بالانزعاج أثناء الاستماع (طبعا إن كان الفارق في الانسجام كبيرا، يتوقف المخ عن محاولة دمج المعلومات مع بعضها. وستلاحظ عدم التزامن).
ولو لم يكن هناك تلك المنتجة، لأصبحت لدينا الكثير من المشاكل الإدراكية، تخيل لو أنك تركل الكرة بقوة أثناء شقلبتك إلى الخلف لتدخلها في الهدف بدبل كيك، الآن أنت تنظر للكرة بعينيك، وتشعر بها بقدمك، ولكن الإشارة التي تصل من قدمك تتأخر عن الإشارة النظر، فعينيك هما بالقرب من المخ، والقدم في نهاية الجسم، وإشارة العين تصل أسرع من إشارة الرجل، فلو تضاربت الإشارتان في المخ فستحدث لخبطة حسية، أي الخبرين صحيح، هل الإشارة التي تأتي من العين أم من الرجل؟ أو ماذا يحدث لو أن شخصا ما تحدث معك وهو بعيد عنك بمسافة قصيرة، أنت ترى حركة شفتاه، ولكن الصوت يتأخر عن الصورة، ولو أن المخ لم يضبط الصوت والصورة ستشعر وكأنك في فيلم صيني مدبلج.
هناك مقولة شهيرة تدعي أن السبب الذي يجعل للإنسان أذنين وفم واحد هو لكي يستمع أكثر مما يتكلم، الحقيقة أن هذا مجرد تخمين، لكن بجود الأذنين يمكن للمخ تمييز اتجاه ومكان الصوت من خلال الفروقات الزمنية لوصوله إلى أذن بعد أخرى، لاحظ نفسك حينما تستمع لصوت مفاجئ، ستدير وجهك بسرعة إلى جهته، ما يحدث هو أن الصوت وصل إلى إحدى الأذنين قبل الأخرى، وبقدرة المخ على معرفة الفارق الزمني الفاصل بين الإثنين استطاع تحديد جهة صدور الصوت.
أين يحسب المخ الوقت؟
قصة هنري غوستاف مولاياسون بينت أن المخ يقوم بحساب الوقت، ولكن السؤال هو كيف يقوم المخ بذلك، وأين هذه المناطق المختصة لهذه المهمة؟ علمنا أن الحصين هي منطقة مسؤولة عن تخزين المعلومات الجديدة لتصبح في الذاكرة الدائمة، وهي المنطقة التي تتابع مرور المدة الزمنية الطويلة، طيب ماذا عن المدد القصيرة؟ كيف يدركها المخ؟
في الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، فمن خلال تصفح المواقع والأوراق العلمية نكتشف أن بعض العلماء لهم تجارب تبين مواقع محددة في المخ مخصصة لعمليات وقتية معينة، وآخرين استدلوا من تجاربهم أن معرفة الوقت ليس لها تحديد واضح في المخ، فهي منتشرة في جميع أنحائه، وإن كانت بعض المناطق تتخصص في إدراك الفترات الزمنية بتحديد معين. وأظن كما بدا لي أن العلماء يتجهون إلى القول أن إدراك الوقت هو عملية غير محلية عموما.
تجربة ديفيد إيغالمان على إدراك الوقت
في سنة 2013 كنت مسافرا في الشتاء إلى بريطانيا أنا وأحد الأصدقاء، فأخذنا التاكسي إلى المطار من مدينة ساوثهامتون في ليلة ثلجية، الشوارع كانت زلقة جدا، فسارت السيارة بحذر وبطء شديدين، بعد أن وصلنا إلى المطار اكتشفنا أن الرحلة ألغيت، وقبل أن يغادر التاكسي طلبت منه إعادتنا إلى ساوثهامتون، مرة أخرى سرنا بالسيارة ببطئ شديد للرجوع، فاقتربنا من شاحنة على الخط السريع، وكانت المسافة بيننا وبينها حوالي 100 متر، وإذا بسيارة مسرعة بالجانب الأيمن تتخطى سيارة التاكسي التي كنا بداخلها، واقتربت من الجانب الأيمن من الشاحنة الكبيرة فانزلقت على الشارع، واستدارت بسرعة إلى اليسار، واصطدمت بالجنب الأيمن من الشاحنة، ثم استدارت أكثر، واتجهت ناحيتنا.
أتذكر المشهد والسيارة تتحرك ناحيتنا جيدا، الصورة التي أتذكرها في ذهني كانت لسيارة تتحرك ببطء وهي تتجه ناحيتنا، وفي تلك الأثناء كان سائق التاكسي يتحرك إلى اليمين في محاولة لتفاديها وتفادي الشاحنة، انزلقت السيارة الصغيرة إلى الجانب الأيسر من التاكسي وأنا أنظر لها من خلال الشباك الأمامي أولا، ثم الزجاج الأيسر الجانبي بعد ذلك إلى أن تزحلقت السيارة وأصبحت خلفنا.
هذه الصورة التي أتذكرها لم تكن سريعة، بل كانت مبطأة كما في لقطات الكاميرات السريعة والتي تلتقط فيديو للأشياء السريعة، ليتم تبطيأها حين العرض. هكذا أتذكر تسلسل تلك الأحداث. يبدو أن العالم أصبح بطيئا، أو أن مخي استطاع أن يبطئ الوقت بدرجة كبيرة بحيث تمكنت من رؤية التفاصيل الدقيقة للحادث.
ما الذي حدث بالضبط؟ هل كان مخي كان يعالج المعلومات بسرعة أكبر تحت الضغط بحيث ظهرت الأشياء وكأنها بطيئة بالنسبة لي؟ سرعة الأحداث لم تتغير، إذن، لابد أن نشاط المخ أصبح سريعا جدا بحيث تراءت لي الأمور وكأنها بطيئة جدا، ربما كانت الساعة الداخلية تعمل بسرعة أكبر. هل بالفعل كنت أراها بالبطيء في حينها أم أن شيئا آخر حدث؟
قام العالم ديفيد إيغالمان بتجربة حتى يعرف كيف يشعر الإنسان بتباطؤ الأحداث التي يراها في وجود ظرف مخيف أو مثير، فطلب من متطوعين أن يرموا بأنفسهم من برج ارتفاعه 33 مترا حيث كانت تنتظرهم شبكة (كتلك التي ترى في السيرك)، وألبس كل شخص ساعة تظهر أرقاما تتغير على الشاشة بسرعة بحيث لا يمكنهم ملاحظتها بسرعة الملاحظة المعتادة، وطلب منهم أن ينظروا إلى شاشة الساعة الإلكترونية أثناء السقوط لتحديد الرقم الذي يظهر عليها، فإذا كان العمليات التي يقوم بها المخ سريعة جدا، ذلك يعني أنه سيكون بإمكان الشخص قراءة هذه الأرقام وهو في حالة من الخوف الشديد.
بعد أن رمى الأشخاص أنفسهم من الأعلى، ووصلوا إلى الأرض، سألهم، كم من الوقت تعتقدون أنكم قضيتهم في السقوط، فقدروا مدة السقوط بمدة أكبر بقدر 30؟ أكثر من الوقت الحقيقي، وكأنه الزمن تباطأ بالنسبة لهم بسبب الخوف، ولكن بالإمكان التأكد من صحة هذا البطء من خلال معرفتهم للرقم، فإن عرفوا الأرقام التي ظهرت لهم، ذلك يعني أن المخ استطاع أن يتفاعل مع المحيط بسرعة اكبر.
أتضح بعد سؤالهم أنهم لم يكونوا بأفضل من أولئك الذي نظروا إلى الساعة وهم مستقرين على الأرض، الذين لم يتأثروا بأي نوع من أنواع الإثارة، فتبين أن الشخص المثار والشخص غير المثار كلاهما سواء، فالمخ يعمل بنفس السرعة في كلا الحالتين.
وهنا يفسر الدكتور إيغالمان بأن المخ وإن لم يستطع أن يصبح سريعا أثناء الإثارة، إلا أنه يسجل معلومات كثيرة في تلك الأثناء، أنه وبعد أن تنهي الإثارة، يقوم بربطها مع بعضها، فتصبح وكأنها مدة زمنية طويلة، أي أن التفاصيل التي يخزنها المخ أكبر أثناء الإثارة، فيستشعر الشخص مدة أطول، فما يحدث هو شعور أو إدراك بتغير السرعة، وليس أن تغير في السرعة فعليا.
الشعور من هذا النوع حيث يشعر الشخص ببطئ الأحداث أو تسارعها أو حتى بتوقفها تماما، كما حدث لشاب أصيب بتمدد في أوعية الدماغ، حينما كان في الدوش، فرأى قطرات الماء متوقفة في الهواء، كل هذه الأمور وأخرى حدثت بكثرة ومسجلة في المقالات العلمية تبين كيف يدرك الإنسان مرور الوقت.
حينما نحاول أن نفهم الوقت نجد أنفسنا في حيرة، فالفيزيائيون إلى يومنا هذا لا يعلمون ما هو الزمن فهم يفسرونه بعدة تفاسير، منها من خلال الإنتروبيا، وهو الأكثر قبولا، وإن لم يكن هو الحل المؤكد، وكذلك فإنه لا يوجد تعريف واضح للثانية أو مدة مرور الوقت، ولا أحد يعرف بالتحديد كيف يدرك المخ الوقت، وإن كانت الدراسات تتقدم بقوة في هذا المجال، عدم معرفتنا بكل هذه التفاصيل لم تمنعنا من أن نعيش حياتنا كلها اعتمادا عليه، لينظم كل شؤون حياتنا.
[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=MkANniH8XZE]
المراجع
- From Eternity to Here, Sean Carroll
- Real-World Relativity: The GPS Navigation System, Astronomy at Ohio state university
- Global Positioning System
- Relativity and Global Positioning System
- New Clock May End Time as We Know it, NPR
- David Eagleman on Choice, Youtube
- The man who saw time freeze, BBC
- Your Brain has 2 Clocks, Scietific American
- Interstellar, the movie
- قصة الرجل الذي غير مفهوم الذاكرة عند العلماء, Sciware
- How a Quartz Watch Works, The Engineering Guy.
- How Quartz Watchs Works, How Stuff Works
حلقه اكثر من رائعه
ياليت تكون الحلقه الجايه عن المسبار اللذي حط على المذنب
مثل ماتحدثت في الماضي عن كيورياستي
لك الشكر الجزيل دكتور محمد
سألت في بداية الحلقة عن المرجعية المتبعة في قياس الزمن وكيف أن قياس المسافة أو الكتلة سهل بالمقارنة مع الوقت وهنا استوقفني
أمر وهو أن حتى المسافة هي تعريف مبهم بالنسبة لي أيضًا
فإذا كانت الالكترونات دائمة الحركة حول النواة ومكونات النواة دائمة الاهتزاز أيضًا فإنه من المستحيل تعيين مسافة دقيقة نعتمدها
مرجعًا على نحو دقيق